مضروب الرّواق ، ممدود الأطناب ، مبسوط الباع ، مرفوع العماد ، ليس على الأرض من يعرف الله حق معرفته ، أو يعبده حق عبادته ، أو يدين بعظمته ، أو يعلم علو جلالته ، أو يتفكر فى حكمته ، فكان كما وصفه الله تعالى ، جل ذكره من أنه نور ، فقال (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى ـ ٥٢] فانظر ـ إن شئت ـ إلى شريف هذا النظم ، وبديع هذا التأليف ، وعظيم هذا الرّصف ، كل كلمة من هذه الآية تامة ، وكل لفظ بديع واقع ، قوله (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) يدل على صدوره من الربوبية ، ويبين عن وروده عن الإلهية ، وهذه الكلمة بمنفردها وأخواتها ، كل واحدة منها لو وقعت بين كلام كثير ، تميّز عن جميعه ، وكان واسطة عقده وفاتحة عقده ـ وغرّة شهره وعين دهره. وكذلك قوله (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) ، فجعله روحا لأنه يحيى الخلق ، فله فضل الأرواح فى الأجساد ، وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس فى الآفاق ، ثم أضاف وقوع الهداية به. إلى مشيئته ، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته ويبين أنه لم يكن ليهتدى إليه لو لا توفيقه ، ولم يكن ليعلم ما فى الكتاب ولا الإيمان لو لا تعليمه ، وأنه لم يكن ليهتدى فكيف كان يهدى ـ لولاه ، فقد صار يهدى ولم يكن من قبل ذلك ليهتدى ، فقال (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى ـ ٥٣] فانظر إلى هذه الكلمات الثلاث فالكلمتان الأوليان مؤتلفتان ، وقوله (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) كلمة منفصلة مباينة للأولى ، فقد صيرها شريف النظم أسدّ ائتلافا من الكلام المؤالف ، وألطف انتظاما من الحديث المتلائم ، وبهذا يبين فضل الكلام وتظهر فصاحته وبلاغته ، والأمر أظهر ، والحمد لله ، والحال أبين من أن يحتاج إلى كشف (١).
وهذا التحليل الذى قدمناه للباقلانى ، إذا عدنا الى خيوطه ، أحسب أنه قد أراد ما أراده الجرجانى بعده من فكرة النظم ولكنه وقع دونه. وهذا لا يقدح فى
__________________
(١) الباقلانى ـ إعجاز القرآن ـ ١٨٦ و ١٨٧.