وثانيها : أن المعنى : كأن هذا القرآن أغلال في أعناقهم يمنعهم عن الخضوع لاستماعه وتدبّره لثقله عليهم ، وذلك أنهم لمّا استكبروا عنه وأنفوا من اتباعه ، وكان المستكبر رافعا رأسه لاويا عنقه شامخا بأنفه لا ينظر إلى الأرض ، صاروا كأنما غلّت أيديهم إلى أعناقهم. وإنما أضاف ذلك إلى نفسه لأن عند تلاوته القرآن عليهم ودعوته إيّاهم صاروا بهذه الصفة ، فهو مثل قوله : حتى أنسوكم ذكري ، عن أبي مسلم.
وثالثها : أن المعنيّ بذلك ناس من قريش همّوا بقتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فجعلت أيديهم إلى أعناقهم ، فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يدا ، عن ابن عباس والسدي.
ورابعها : أن المراد به وصف حالهم يوم القيامة ، فهو مثل قوله : إذ الأغلال في أعناقهم ، وإنما ذكره بلفظ الماضي للتحقيق» (١).
ولعل الوجه الأخير أقرب لانسجامه مع الآية السابقة بحسب ظاهر معناها في إرادة العذاب من كلمة القول ولعدم وجود شاهد لفظيّ أو سياقيّ على الوجوه المذكورة ، والله العالم.
* * *
الله أغلق عليهم نوافذ المعرفة
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) لما تفرضه الحواجز النفسية التي نصبتها عقلية الجهل والتخلف التي أغلقت عنهم نوافذ المعرفة الحقة ، ولم يحاولوا أن يدخلوا في حوار انطلاقا من مواقع الفكر التي تثير الفكر الآخر ، وبذلك كانت الدائرة الفكرية التي يعيشون فيها مملوءة بالسدود التي تحيط بهم من كل جهة ، فابتعدوا عن التطلع إلى الأفق الرحب الذي يعيش إشراقة الهدى والإيمان.
__________________
(١) مجمع البيان ، ج : ٤ ، ص : ٦٥١.