تجد فيه الحكمة
وفصل الخطاب ، مجلوة عليك في منظر بهيج ، ونظم أنيق ، ومعرض رشيق ، غير متعاص على
الأسماع ، ولا متلو على الأفهام ، ولا مستكره في اللفظ ولا متوحش في المنظر غريب
في الجنس ، غير غريب في القبيل ، ممتلئ ماء ونضارة ولطفا وغضارة ، يسري في القلب
كما يسري السرور ، يمر إلى مواقعه كما يمر السهم ، ويضيء كما يضيء الفجر ، ويزخر
كما يزخر البحر ، طموح العباب ، جموح على المتناول المنتاب ، كالروح في البدن ،
والنور المستطير في الأفق ، والغيث الشامل ، والضياء الباهر. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) .
من توهم أن الشعر
يلحق شأوه بان ضلاله. وصح جهله. إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن ، وتداولته القلوب
، وانثالت عليه الهواجس ، وضرب الشيطان فيه بسهمه ، وأخذ منه بحظه. وما دونه من
كلامهم ، فهو أدنى محلا ، وأقرب مأخذا ، وأسهل مطلبا. ولذلك قالوا : فلان مفحم ،
فأخرجوه مخرج العيب. كما قالوا : فلان عيي ، فأوردوه مورد النقص.
والقرآن كتاب دل
على صدق متحمله ، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها ، وبرهان شهد له برهان
الأنبياء المتقدمين. وبينة على طريقة من سلف من الأولين ، حيرهم به إذا كان من جنس
القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية. وبلغوا فيه الغاية. فعرفوا عجزهم ، كما
عرف قوم عيسى نقصانهم. فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج ، والوصول إلى
أعلى مراتب الطب. فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص. وكما
أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم ، وأتت على ما أجمعوا عليه من
أمرهم. وكما سخّر لسليمان من الرياح والطير والجن حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة
، وبدائع من اللطف. ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليه الأول والآخر وقوفا واحدا. وبقى
حكمها إلى يوم القيامة.
انظر وفقك الله
لما هديناك إليه ، وفكر في الذي دللناك عليه ، فالحق منهج واضح ، والدين ميزان
راجح ، والجهل لا يزيد إلا غما ، ولا يورث إلا ندما. قال الله عزوجل : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) وقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) وقال : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
__________________