وإذا تأملت على ما هديناك إليه ، ووقفناك عليه ، فانظر هل ترى وقع هذا النور في قلبك واشتماله على لبّك ، وسريانه في حسك ، ونفوذه في عروقك ، وامتلاءك به إيقانا وإحاطة ، واهتداءك به إيمانا وبصيرة؟ أم هل تجد العرب يأخذ منك مأخذه من وجه. والهزة تعمل في جوانبك من لون ، والأريحيّة تستولي عليك من باب؟ وهل تجد الطرب يستفزّك للطيف ما فطنت له ، والسرور يحركك من عجيب ما وقفت عليه ، وتجد في نفسك من المعرفة التي حدثت لك عزّة ، وفي أعطافك ارتياحا وهزّة. وترى لك في الفضل تقدما وتبريزا ، وفي اليقين سبقا وتحقيقا ، وترى مطارح الجهال تحت أقدام الغفلة ، ومهاويهم في ظلال القلة والذلة ، وأقدارهم بالعين التي يجب أن تلحظ بها مراتبهم ، بحيث يجب أن ترتبها؟ هذا كله في تأمل الكلام ، ونظامه ، وعجيب معانيه وأحكامه.
فإن جئت إلى ما انبسط في العالم من بركته وأنواره ، وتمكن في الآفاق من يمنه وأضوائه ، وثبت في القلوب من إكباره وإعظامه ، وتقرر في النفوس من حتم أمره ونهيه.
ومضى في الدماء من مفروض حكمه ، وإلى أنه جعل عماد الصلاة التي هي تلو الإيمان في التأكيد ، وثانية التوحيد في الوجوب ، وفرض حفظه ، ووكل الصغار والكبار بتلاوته ، وأمر عند افتتاحه بما أمر به لتعظيمه من قوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١) لم يؤمر بالتعوذ لافتتاح أمر كما أمر به لافتتاحه ، فهل يدلك هذا على عظيم شأنه ، وراجح ميزانه ، وعالي مكانه ..؟ وجملة الأمر أنّ نقد الكلام شديد ، وتمييزه صعب.
ومما كتب إلى الحسن بن عبد الله العسكري أخبرني أبو بكر بن دريد ، قال : سمعت أبا حاتم يقول : سمعت الأصمعي يقول : فرسان الشعراء أقل من فرسان الحرب.
وقال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : العلماء بالشعر أعز من الكبريت الأحمر. وإذا كان الكلام المتعارف المتداول بين الناس يشق تمييزه ، ويصعب نقده ، ويذهب عن محاسنه الكثير ، وينظرون إلى كثير من قبيحه بعين الحسن ، وكثير من حسنه بعين القبح. ثم يختلفون في الأحسن منه اختلافا كثيرا ، وتتباين آراؤهم في تفضيل ما يفضل منه. فكيف لا يتحيرون فيما لا يحيط به علمهم ، ولا يتأتى في مقدورهم ، ولا يمثل بخواطرهم؟ وقد حيّر القوم الذين لم يكن أحد أفصح منهم ، ولا أتم بلاغة ، ولا أحسن براعة ، حتى دهشوا حين ورد عليهم ، وولهت عقولهم. ولم يكن عندهم فيه جواب غير ضرب الأمثال ، والتحرّض عليه ، والتوهم فيه ، وتقسيمه أقساما ، وجعله عضين.
__________________
(١) آية (٩٨) سورة النحل.