(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧)
____________________________________
كان لهم علم بذلك على الحقيقة ثم انتفى شيئا فشيئا بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع ثم أضرب وانتقل عن بيان عدم علمهم بها إلى بيان ما هو أسوأ منه وهو حيرتهم فى ذلك حيث قيل (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) أى فى شك مريب من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير فى* أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التى ستقع فيها ثم أضرب عن ذلك إلى بيان أن ما هم فيه أشد وأفظع من الشك حيث قيل (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بحيث لا يكادون يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم* بالكلية وقرىء بل أدرك علمهم بمعنى انتهى وفنى وقد فسره الحسن البصرى باضمحل علمهم وقيل كلتا الصيغتين على معناهما الظاهر أى تكامل واستحكم أو تم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون فى ذلك وقوله تعالى (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) إضراب وانتقال من وصفهم بمطلق الجهل إلى وصفهم بالشك وقوله تعالى (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) إضراب من وصفهم بالشك إلى وصفهم بما هو أشد منه وأفظع من العمى وأنت خبير بأن تنزيل أسباب العلم منزلة العلم سنن مسلوك لكن دلالة النظم الكريم على جهلهم حينئذ ليست بواضحة وقيل المراد بوصفهم باستحكام العلم وتكامله التهكم بهم فيكون وصفا لهم بالجهل مبالغة والإضرابان على ما ذكر وأصل ادارك تدارك وبه قرأ أبى فأبدلت التاء دالا وسكنت فتعذر الابتداء فاجتلبت همزة الوصل فصار ادارك وقرىء بل ادرك وأصله افتعل وبل أأدرك بهمزتين وبل آأدرك بألف بينهما وبل ادرك بالتخفيف والنقل وبل ادرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل ادرك على الاستفهام وبلى ادرك وبلى أأدرك وأم تدارك وأم أدرك فهذه ثنتا عشرة قراءة فما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فهو إنكار ونفى وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذى هو أبلغ وجوه النفى والإنكار وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة فى النفى ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل أنهم منها عمون أورد وإنكار لشعورهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان لجهلهم بالآخرة وعمههم منها بحكاية إنكارهم للبعث ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما فى حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل فى قولهم (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُناأ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ) أى أنخرج من القبور إذا كنا ترابا كما ينبىء عنه مخرجون ولا مساغ لأن يكون هو العامل فى إذا لاجتماع موانع لو تفرد واحد منها لكفى فى المنع وتقييد الإخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج فى حالة منافية له وقوله تعالى (وَآباؤُنا) عطف على اسم كان وقام الفصل مع الخبر مقام الفصل بالتأكيد وتكرير الهمزة فى أئنا للمبالغة والتشديد فى الإنكار وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما فى قوله تعالى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ونظائره على رأى الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور