(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣)
____________________________________
وبيان الحكمة فى التنزيل التدريجى ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أى مثل ذلك التنزيل المفرق الذى قدحوا فيه واقترحوا خلافه ونزلناه لا تنزيلا مغايرا له لنقوى بذلك التنزيل المفرق فؤادك فإن فيه تيسير الحفظ النظم وفهم المعانى وضبط الأحكام والوقوف على تفاصيل ما روعى فيها من الحكم والمصالح المبنية على المناسبة على أنها منوطة بأسبابها الداعية إلى شرعها ابتداء أو تبديلا بالنسخ من أحوال المكلفين وكذلك عامة ما ورد فى القرآن المجيد من الأخبار وغيرها متعلقة بأمور حادثة من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجددها تجدد ما يتعلق بها كالاقتراحات الواقعة من الكفرة الداعية إلى حكايتها وإبطالها وبيان ما يؤول إليه حالهم فى الآخرة على أنهم فى هذا الاقتراح كالباحث عن حتفه بظلفه حيث أمروا بالإتيان بمثل نوبة من نوب التنزيل* فظهر عجزهم عن المعارضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف لو تحدوا بكلمة وقوله تعالى (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) عطف على ذلك المضمر وتنكير ترتيلا للتفخيم أى كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره ومعنى ترتيله تفريقه آية بعد آية قاله النخعى والحسن وقتادة وقال ابن عباس رضى الله عنهما بيناه بيانا فيه ترتيل وتثبيت وقال السدى فصلناه تفصيلا وقال مجاهد جعلنا بعضه فى إثر بعض وقيل هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) وقيل قرأناه عليك بلسان جبريل عليهالسلام شيئا فشيئا فى عشرين أو فى ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) من الأمثال التى من جملتها ما حكى من اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أى لا يأتونك* بكلام عجيب هو مثل فى البطلان يريدون به القدح فى حقك وحق القرآن (إِلَّا جِئْناكَ) فى مقابلته (بِالْحَقِّ) أى بالجواب الحق الثابت الذى ينحى عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة* لعروق أسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية وقوله تعالى (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) عطف على الحق أى جئناك بأحسن تفسيرا أو على محل بالحق أى أتيناك بالحق وأحسن تفسيرا أى بيانا وتفصيلا على معنى أنه فى غاية ما يكون من الحسن فى حد ذاته لا أن ما يأتون به له حسن فى الجملة وهذا أحسن منه كما مر والاستثناء مفرغ محله النصب على الحالية أى لا يأتونك بمثل إلا حال إيتائنا إياك الحق الذى لا محيد عنه وفيه من الدلالة على المسارعة إلى إبطال ما أتوا به وتثبيت فؤاده صلىاللهعليهوسلم مالا يخفى وهذا بعبارته ناطق ببطلان جميع الأسئلة وبصحة جميع الأجوبة وبإشارته منبىء عن بطلان السؤال الأخير وصحة جوابه إذ لو لا أن تنزيل القرآن على التدريج لما أمكن إبطال تلك الاقتراحات الشنيعة ولما حصل تثبيت فؤاده صلىاللهعليهوسلم من تلك الحيثية هذا وقد جوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة الغريبة التى كانوا يقترحون كونه صلىاللهعليهوسلم عليها من مقارنة الملك والاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرآن عليه جملة واحدة على معنى لا يأتونك بحال عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك فى حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته وهو الذى أنت عليه فى الذات