يسبحونه باعتبار أشرفها التى هى الإنسانية (وَالطَّيْرُ) بالرفع عطفا على من وتخصيصها بالذكر مع اندارجها* فى جملة ما فى الأرض لعدم استقرار قرارها فيها واستقلالها بصنع بارع وإنشاء رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح إنبائها عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقييد بقوله تعالى (صَافَّاتٍ) أى تسبيحه تعالى حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما تتمكن* من الوقوف فى الجو والحركة كيف تشاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالهما بالقبض والبسط حجة نيرة واضحة المكنون وآية بينة لقوم يعقلون دالة على كمال قدرة الصانع المجيد وغاية حكمة المبدىء المعيد وقوله تعالى (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) بيان لكمال عراقة كل واحد مما ذكر* فى التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية وقد أدمج فى تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه لما يهمه بلسان استعداده وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة فى حد ذاته بمعزل من استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يليق بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداء وبقاء فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه فى كل آن من فيوض الفنون المتعلقة بذاته وصفاته مالا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الربانية من العلاقة لانعدم بالمرة وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التى هى الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل وإفادة المزايا المذكورة فيما مر على التفصيل وتقديمها على التسبيح فى الذكر لتقدمها عليه فى الرتبة هذا ويجوز أن يكون العلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك وبما ناب عنه التنوين فى كل أنواع الطير وأفرادها وبالصلاة وبالتسبيح ما ألهمه الله تعالى كل واحد منها من الدعاء والتسبيح المخصوصين به لكن لا على أن يكون الطير معطوفا على كلمة من مرفوعا برافعها فإنه يؤدى إلى أن يراد بالتسبيح معنى مجازى شامل للتسبيح المقالى والحالى من العقلاء وغيرهم وقد عرفت ما فيه بل بفعل مضمر أريد به التسبيح المخصوص بالطير معطوف على المذكور كما مر فى قوله تعالى (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أى وتسبح الطير تسبيحا خاصا بها حال كونها صافات أجنحتها وقوله تعالى (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أى دعاه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله عزوجل إياه لبيان كمال رسوخه فيهما وأن صدورهما عنه ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإيقان من غير إخلال بشىء منهما حسبما ألهمه الله تعالى فإن إلهامه تعالى لكل نوع من أنواع المخلوقات علوما دقيقة لا يكاد يهتدى إليه جهابذة العقلاء مما لا سبيل إلى إنكاره أصلا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الأشياء من الإدراك قالوا إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبها فيغير المدخل إلى جحره حتى روى أنه كان بقسطنطينية قبل الفتح الإسلامى رجل قد أثرى بسبب أنه كان ينذر الناس بالرياح قبل هبوبها وينتفعون بإنذاره بتدارك أمور سفائنهم وغيرها وكان السبب فى ذلك أنه كان يقتنى فى داره قنفذا يستدل بأحواله على ما ذكر وتخصيص تسبيح الطير بهذا المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودا وأقرب حملا على التسبيح وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أى ما يفعلونه اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وما على الوجه* الأول عبارة عما ذكر من الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا