(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٢٢)
____________________________________
يحصل التركيب المعتبر فى التمثيل كما مر مرارا وأما جعل المشبه إرادته تعالى فى الاستعارة والتمثيل فأمر مؤسس على قاعدة الاعتزال القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى فالجملة حال إما من فاعل خلقكم أى طالبا منكم التقوى أو من مفعوله وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أى خلقكم وإياهم مطلوبا منكم التقوى أو علة له فإن خلقهم على تلك الحال فى معنى خلقهم لأجل التقوى كأنه قيل خلقكم لتتقوا أو كى تتقوا إما بناء على تجويز تعليل أفعاله تعالى بأغراض راجعة إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة وإما تنزيلا لترتب الغاية على ما هى ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هى علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه وتقييد خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عليته للمأمور به وتأكيدها فإن إتيانهم بما خلقوا له أدخل فى الوجوب وإيثار تتقون على تعبدون مع موافقته لقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) للمبالغة فى إيجاب العبادة والتشديد فى إلزامها لما أن التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزم والإتيان به أهون وإن روعيت جهة المخاطب فلعل فى معناها الحقيقى والجملة حال من ضمير اعبدوا كأنه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام فى زمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المراد بالتقوى مرتبتها الثالثة التى هى التبتل إلى الله عزوجل بالكلية والتنزه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهى أقصى غايات العبادة التى يتنافس فيها المتنافسون وبالانتظام القدر المشترك بين إنشائه والثبات عليه ليرتجيه أرباب هذه المرتبة وما دونها من مرتبتى التوقى عن العذاب المخلد والتجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك كما مر فى تفسير المتقين ولعل توسيط الحال من الفاعل بين وصفى المفعول لما فى التقديم من فوات الإشعار بكون الوصف الأول معظم أحكام الربوبية وكونه عريقا فى إيجاب العبادة وفى التأخير من زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبار تحقق التوقع بالفعل فأما إن اعتبر تحققه بالقوة فالجملة حال من مفعول خلقكم وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أى خلقكم وإياهم حال كونكم جميعا بحيث يرجو منكم كل راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما برأهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كل راج أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنة لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعا واعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى وتحتم عبادته على كافة الناس مرشدة لهم بإشارتها إلى أن مطالعة الآيات التكوينية المنصوبة فى الأنفس والآفاق مما يقضى بذلك قضاء متقنا وقد بين فيها أو لا من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلق أسلافهم لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) وهو فى محل النصب على أنه صفة ثانية لربكم موضحة أو مادحة أو على تقدير أخص أو أمدح أو فى محل الرفع