(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(٢١)
____________________________________
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إثر ما ذكر الله تعالى علو طبقة كتابه الكريم وتحزب الناس فى شأنه إلى ثلاث فرق مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق وأخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ونعت كل فرقة منها بمالها من النعوت والأحوال وبين ما لهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقى وجبرا لما فى العبادة من الكلفة بلذة الخطاب فأمرهم كافة بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد إما إجلالا كما فى قول الداعى يا ألله ويا رب وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصارا لنفسه واستبعادا لها من محافل الزلفى ومنازل المقربين وإما تنبيها على غفلته وسوء فهمه وقد يقصد به التنبيه على أن ما يعقبه أمر خطير يعتنى بشأنه وأى اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعروف باللام لا على أنه المنادى أصالة بل على أنه صفة موضحة له مزيلة لإبهامه والتزم رفعه مع انتصاب موصوفه محلا إشعارا بأنه المقصود بالنداء وأقحمت بينهما كلمة التنبيه تأكيدا لمعنى النداء وتعويصا عما يستحقه أى من المضاف إليه ولما ترى من استقلال هذه الطريقة بضروب من أسباب المبالغة والتأكيد كثر سلوكها فى التنزيل المجيد كيف لا وكل ما ورد فى تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوب جليلة حقيقة بأن تقشعر منها الجلود وتطمئن بها القلوب الآبية ويتلقوها بآذان واعية وأكثرهم عنها غافلون فاقتضى الحال المبالغة والتأكيد فى الإيقاظ والتنبيه والمراد بالناس كافة المكلفين الموجودين فى ذلك العصر لما أن الجموع وأسماءها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناء منها والتأكيد بما يفيد العموم كما فى قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) واستدلال الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعا ذائعا وأما من عداهم ممن سيوجد منهم فغير داخلين فى خطاب المشافهة وإنما دخولهم تحت حكمه لما تواتر من دينه صلىاللهعليهوسلم ضرورة أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ولا يقدح فى العموم ما روى عن علقمة والحسن البصرى من أن كل ما نزل فيه يأيّها الناس فهو مكى إذ ليس من ضرورة نزوله بمكة شرفها الله تعالى اختصاص حكمه بأهلها ولا من قضية اختصاصه بهم اختصاصه بالكفار إذ لم يكن كل أهلها حينئذ كفرة ولا ضير فى تحقق العبادة فى بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمور به القدر المشترك الشامل لإنشاء العبادة والثبات عليها والزيادة فيها مع أنها متكررة حسب تكرر أسبابها ولا فى انتفاء شرطها فى الآخرين منهم أعنى الإيمان لأن الأمر بها منتظم للأمر بما لاتم إلا به وقد علم من الدين ضرورة اشتراطها به فإن أمر المحدث بالصلاة مستتبع للأمر بالتوضى لا محالة وقد قيل المراد بالعبادة ما يعم أفعال القلب أيضا لما أنها عبارة عن غاية التذلل والخضوع وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن كل ما ورد فى القرآن من العبادات فمعناها التوحيد وقيل معنى اعبدوا وحدوا وأطيعوا ولا فى كون بعض من الفرقتين الأخيرتين ممن لا يجدى فيهم الإنذار بموجب النص القاطع لما أن الأمر لقطع الأعذار