عليه وسلم إلى مجرّد الملك ، وترك الأصل الأكبر وهو النبوة التي تتركب على الملك والعبودية.
على أنه روى في الحديث أنّ جبريل نزل على النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له : إنّ الله خيّرك بين أن تكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا ، فنظر إلى جبريل كالمستشير له ، فأشار إليه جبريل : أن تواضع ، فقال : بل نبيا عبدا أجوع يوما وأشبع يوما.
المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ). قد بيناها في غير موضع.
المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَفَصْلَ الْخِطابِ).
قيل : هو علم القضاء ، وقيل : هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. وقيل: هو قوله : أمّا بعد. وكان أوّل من تكلّم بها ، فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرّد ، وفصل منه مؤكّد غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام ، ففي الحديث: أقضاكم علىّ ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل.
وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال عارفا بالحلال والحرام ، ولا يقوم بفصل القضاء فيها ، وقد يكون الرجل يأتى القضاء من وجهه باختصار من لفظه وإيجاز في طريقه بحذف التطويل ، ورفع التشتيت (١) ، وإصابة المقصود.
ولذلك يروى أنّ علىّ بن أبى طالب قال : لما بعثني النبىّ صلّى الله عليه وسلم إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد ، فوقع فيها الأسد ، وازدحم الناس على الزّبية ، فوقع فيها رجل ، وتعلّق بآخر ، وتعلّق الآخر بآخر ، حتى صاروا أربعة ، فحرجهم (٢) الأسد فيها ، فهلكوا ، وحمل القوم السلاح ، وكاد يكون بينهم قتال ، فأتيتهم فقلت لهم : أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناسى ، تعالوا أقض بينكم بقضاء ، فإن رضيتم فهو قضاء بينكم ، وإن أبيتموه رفعت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فهو أحقّ بالقضاء ، فجعل للأول ربع الدية ، وللثاني ثلث الدية ، وللثالث نصف الدية ، وجعل للرابع الدية ، وجعل الديات على من حفر الزّبية على قبائل الأربع.
فسخط بعضهم ، ورضى بعضهم ، ثم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ،
__________________
(١) في ش : التشغيب. وفي م : التشعيث.
(٢) المعروف أحرجه : ألجأه إلى مضيق. وأحرجت فلانا : صيرته إلى الحرج. وفي ش : فجرحهم.