حتى يطمح ببصره إلى زخارف الدنيا ، وعنده معارف المولى ، حيي بالباقي ، فغنى عن الفاني.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة. فكان يتشاغل بالنساء جبلّة الآدمية وتشوّف الخلقة الإنسانية ، ويحافظ على الطّيب منفعة خاصية وعامية ، ولا يقرّ له عين إلا في الصلاة لدى مناجاة المولى ، ويرى أن مناجاة المولى أجدر من ذلك وأولى.
وقد بيّنا تحقيق ذلك في شرح الحديث ، ولم يكن في دين محمد صلى الله عليه وسلم الرهبانية والإقبال على الأعمال الصالحة بالكلّية ، كما كان في دين عيسى ، وإنما شرع الله له ولنا بحكمته حنيفية سمحة خالصة عن الحرج خفيفة عن الإصر ، نأخذ من الآدمية وشهواتها بحظّ وافر ، ونرجع إلى الله بقلب سليم ، إن شغل بدنه باللذات عكف قلبه على المعارف ، ورأى اليوم علماء القراء والمخلصون من الفضلاء أنّ الانكفاف عن اللذات ، والخلوص لرب السموات اليوم أولى ، لما غلب على الدنيا من الحرام ، واضطر إليه العبد في المعاش من مخالطة من لا تجوز مخالطته ، ومصانعة من تحرم مصانعته ، وحماية الدنيا بالدين ، وصيانة المال بتبدل الطاعة بدلا عنه ، فكانت العزلة أفضل ، والفرار عن الناس أصوب للعبد وأعدل ، حسبما تقدم به (١) الوعد الذي لا خلف له من الصادق ، يأتى على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف (٢) الجبال ، ومواقع القطر يفرّ بدينه من الفتن.
فإن قيل : ففي هذا الحديث الذي ذكرتم ـ وهي :
المسألة السادسة ـ أنه قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة : هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته ، فتكون الفاتحة هي القرآن العظيم.
قلنا : المراد بالمثاني القرآن كلّه ، فالمعنى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني مما ثنّى بعض آيه بعضا ، ويكون بالمثاني جمع مثناة ، وتكون آي القرآن موصوفة بذلك ، لأن بعضها تلا بعضا بفصول بينها ، فيعرف انقضاء الآية وابتداء الآية التي بعدها ، وذلك قوله تعالى (٣) : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ). ويحتمل أن يكون «مثاني» ، لأنّ المعاني كررت فيه والقصص.
__________________
(١) في ا : تقدمه.
(٢) شعف الجبال : رءوسها.
(٣) سورة الزمر ، آية ٢٣.