سدّ هذه البئر ، ثم قطعوا خشبا ، ونصبوها على فم البئر وغطّوها بالتراب. فلما رأى ذلك أبو حمزة قال : هذه مهلكة ، فأراد (١) أن يستغيث بهم ، ثم قال : والله لا أخرج منها أبدا ، ثم رجع إلى نفسه فقال : أليس الذي عاهدت يرى ذلك كله (٢) ، فسكت وتوكّل ، ثم استند في قعر البئر مفكّرا في أمره ، فإذا بالتراب يقع عليه ، والخشب يرفع عنه ، وسمع في أثناء ذلك من يقول : هات يدك. قال : فأعطيته يدي ، فأقلّني في مرة واحدة إلى فم البئر ، فخرجت ولم أر أحدا (٣) ، ثم سمعت هاتفا يقول : كيف رأيت ثمرة التوكل؟ وأنشد :
نهاني حيائى منك أن أكتم الهوى |
|
وأغنيتنى بالعلم منك عن الكشف |
تلطفت في أمرى فأبديت شاهدي |
|
إلى غائبى واللطف يدرك باللطف |
تراءيت لي بالعلم حتى كأنما |
|
تخبّرنى بالغيب أنك في كفّى (٤) |
أرانى وبي من هيبتي لك وحشة |
|
فتؤنسنى باللطف منك وبالعطف |
وتحيى محبّا أنت في الحب حتفه |
|
وذا عجب كون الحياة مع الحتف |
فهذا رجل عاهد الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ، فبه فاقتدوا تهتدوا.
الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٥) : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ).
فيها مسألتان :
المسألة الأولى ـ قوله : (أُكُلُها دائِمٌ) بضم الهمزة في الأكل ، يعنى به المأكول لا الفعل ، وصف الله طعام الجنة بأنه غير مقطوع ولا ممنوع ، وطعام الدنيا ينقطع ويمنع فيمتنع.
المسألة الثانية ـ قال إبراهيم بن نوح : سمعت مالك بن أنس يقول : ليس في الدنيا من ثمار ما يشبه ثمار الجنة إلا الموز ، لأنّ الله يقول : (أُكُلُها دائِمٌ) وأنت تجد الموز في الصيف والشتاء.
قال القاضي : وكذلك رمان بغداد ، شاهدت المحوّل (٦) قرية من قرى نهر عيسى وفي شجر
__________________
(١) في م ، والقرطبي : ثم أراد.
(٢) في م : أليس قد عاهدت من يراني.
(٣) في م : فلم أجد أحدا.
(٤) في ا : كف.
(٥) آية ٣٥.
(٦) في ياقوت : بليدة حسنة بينها وبين بغداد فرسخ.