ومن البلاد ما يكون مطرها بالصّبا ، ومنها ما يكون مطرها بالجنوب ، ويزعم أهلها أنّ ذلك إنما يدور على البحر ، فإذا جرّت الريح ذيلها على البحر ألقحت السحاب منه ، وإذا جرّت ذيلها على البيداء جاءت سحابا عقيما ، وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما ـ أنا لا نمنع ذلك في قدرة الله ، فإن ربّنا قادر على أن ينشئ الماء في السحاب إنشاء ، وهو قادر على أن يسيب له ماء البحر الملح ويصعّده بعد أن كان مستفلا ، ويحلولى بتدبيره ، وقد كان ملحا (١) ، وينزله إلينا فراتا عذبا ، ولكن تعيين أحد الوجهين لا يكون بنظر ، لأنه ليس في العقل لذلك أثر ، وإنما طريقه الخبر ، فنحن نقول : هو جائز ، ولو أخبر به الصادق لكان واجبا.
الثاني ـ أنّ الشمال تسمّيها العرب المجرة ، لأنها تمخر السحاب ، ولا تمطر معها ، وقد تأتى بحرية وبرية ، فدلّ هذا على أنّ الأمر موقوف على المشيئة ، وأنه لا يخبر عن الآثار العلوية إلّا السنّة النبوية ، لا العقول الأرسطاطاليسية.
فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي أجمعت عليه الأئمة (٢) : قال الله تعالى : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب. وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب.
قلنا : إنما خرج هذا على قول العرب التي كانت تعتقد أنّ ذلك من تأثير الكواكب لجاهليتها. وأما من اعتقدها وقتا ومحلّا وعلامة ينشئه الله فيها ويدبّره عليها فليس من الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، وسيأتى إن شاء الله.
الآية السابعة ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ).
فيها ثلاث مسائل :
__________________
(١) في م : بعد أن كان ملحا.
(٢) صحيح مسلم : ٨٤.
(٣) آية ٦٦.