وأما قوله : (تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ـ فإنه من صفة الصدقة ، وكذلك قوله : تزكيهم. يعنى أنّ الصدقة تكون سببا في طهارتهم وتنميتهم.
وأهل الصناعة يرون أن يكون ذلك خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم ، حتى بالغوا فقالوا : إنه يجوز أن يقرأ تطهّرهم ـ بجزم الراء ، ليكون جواب الأمر ، والذي نراه أن كونه صفة أبلغ في نعت الصدقة ، وأقطع لشغب المخالف ، وأبعد من المجاز بمنزلة.
المسألة الثالثة ـ قوله : (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) :
يعنى دعاءك. وقد تكون الصلاة بمعنى الدعاء في الأظهر من معانيها ؛ قال الأعشى(١):
تقول بنتي وقد يمّمت مرتحلا |
|
يا ربّ جنّب أبى الأوصاب والوجعا |
عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضى |
|
نوما فإنّ لجنب المرء مضطجعا |
والسكن : ما تسكن إليه النفوس ، وتطمئنّ به القلوب. وقال قتادة (٢) : وقار لهم.
المسألة الرابعة ـ اختلف الناس في هذه الصدقة المأمور بها ؛ فقيل : هي الفرض ، أمر الله بها هاهنا أمرا مجملا لم يبين فيها المقدار ، ولا المحلّ ، ولا النصاب ، ولا الحول ؛ وبيّن في سورة الأنعام المحلّ وحده ، ووكل بيان سائر ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، مرتّب الشريعة بالحكمة في العبادات على ثلاثة أنحاء ؛ منها ما يجب مرّة في العمر كالحجّ ، ومنها ما يجب مرة في الحول كالزكاة ، ومنها ما يجب كل يوم كالصلاة.
وقيل : المراد بها التطوع.
وقيل : نزلت في قوم تيب عليهم فرأوا أنّ من توبتهم أن يتصدقوا ؛ فأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بهذه الأوامر.
قال ابن عباس : أتى أبو لبابة وأصحابه حين أطلقوا ، وتيب عليهم ـ بأموالهم إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم. فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا فتصدّق بها عنا ، واستغفر لنا. فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ، فأنزل الله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) ، وكان ذلك مرجعه من غزوة تبوك.
وأبو لبابة ممن فرط في قريظة ، وفي تخلفه عن غزوة تبوك ، وحين تيب عليه قال :
__________________
(١) اللسان ـ مادة صلى ، وديوانه : ١٠١.
(٢) في القرطبي : قال قتادة : معناه وقار لهم.