فاستحملناه ، فأبى أن يحملنا ، فاستحملناه فحلف ألّا يحملنا ، ثم لم يلبث النبىّ أن أتى بنهب إبل ، فأمر لنا بخمس ذود ، فلما قبضناها قلنا : تغفّلنا النبىّ يمينه ، لا نفلح بعدها أبدا ، فأتيته فقلت : يا رسول الله ؛ إنك حلفت ألّا تحملنا ، وقد حملتنا. قال : أجل ، ولكني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير منها.
المسألة الثانية ـ في المعنى :
إن الله لما استنفرهم لغزو الروم ، ودعاهم إلى الخروج لغزوة تبوك بادر المخلصون ، وتوقّف المنافقون والمتثاقلون ، وجعلوا يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف ، ويعتذرون إليه بأعذار منها كفر ، كقول الحرّ بن قيس : ائذن لي ولا تفتنّى بينات بنى الأصفر ؛ فإنى لا أقدر على الصبر عنهن ، فأنزل الله تعالى (١) : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا).
ومنهم من قال (٢) : (لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ ...) الآية.
وقال في أهل العذر الصحيح (٣) : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى ...) إلى: (مِنْ سَبِيلٍ). وهم الذين صدقوا في حالهم ، وكشفوا عن عذرهم ، وهي :
المسألة الثالثة ـ التي بيّن الله في قوله (٤) : (وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) ، فأخبر الله سبحانه أنّ الناس ثلاثة أقسام : صنف معذّر ، وهو المقصّر. وصنف ذو عذر. وصنف لم يعتذر بعذره ، ولا أظهر شيئا من أمره ، بل أعرض عن ذلك كلّه ، يقال : عذّر الرجل ـ بتشديد الذال : إذا قصر ، وأعذر إذا أبان عن عذره ، وكلّ واحد منهما يدخل على صاحبه. وقد قرئ المعذرون ـ بإسكان العين ، وتخفيف الذال ، وبذلك قال جماعة من الناس ؛ لكن يكشف المعنى فيه حقيقة الحال منه ، ولذلك عقّبه الله تعالى بقوله : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ، وهم الذين أبدوا عن عذر صحيح ، أو علم الله صدق عذرهم فيما لم يبد عليهم دليل من حالهم.
والعجب من القاضي أبى إسحاق يقول : إن سياق الكلام يقتضى أنهم الذين لا عذر
__________________
(١) سورة التوبة ، آية ٤٩.
(٢) سورة التوبة ، آية ٨١.
(٣) سورة التوبة ، آية ٩١.
(٤) آية ٩٠