وغاص مالك على الحقيقة ، فجمع بين الدلائل ، وقال : إنّ يوم النحر فيه الحج كله ؛ لأن الوقوف إنما هو في ليلته ، وفي صبيحته (١) الرمي والحلق والنحر والطواف ، فلا يبقى بعد هذا إشكال ، والله أعلم.
وقد روى أبو جعفر محمد بن علىّ أنه قال : لما نزلت «براءة» على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق ليقيم للناس الحج قيل له : يا رسول الله ؛ لو بعثت به إلى أبى بكر. فقال : إنه لا يؤدّى عنى إلا رجل من أهل بيتي. ثم دعا عليّا ، فقال له : اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته.
فخرج علىّ على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أم مأمور؟ قال : بل مأمور. ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحجّ ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علىّ بن أبى طالب فأذّن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد سمعت بعض العلماء يقول : إنما سمى يوم الحج الأكبر ؛ لأنّ الناس يجتمعون فيه من كان يقف بعرفة ، ومن كان يقف بالمزدلفة ، وكان النداء في اليوم الذي يجتمع الناس كلهم فيه أولى وأبلغ في المراد.
وهذا وإن كان صحيحا في المعنى ، ولكن النبىّ صلى الله عليه وسلم قد سمّاه يوم الحجّ الأكبر في حجة الوداع بعد ذلك ، والوقوف كله بعرفة.
سمعت أبا سعيد محمد بن طاهر الشهيد يقول : سمعت الأستاذ أبا المظفر طاهر بن محمد شاهبور (٢) يقول : إنما أرسل النبىّ صلى الله عليه وسلم عليا ببراءة مع أبى بكر ، لأن براءة تضمّنت نقض العهد الذي كان عقده النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت سيرة العرب أنه لا يحلّ العقد إلا الذي عقده أو رجل من بيته ، فأراد النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة ، وأن يرسل ابن عمه الهاشمىّ من بيته بنقض العهد ، حتى لا يبقى لهم متكلم. وهذا بديع في فنه.
__________________
(١) في ا : وفي صبيحة الرمي.
(٢) في ل : شابور.