وأما قوله : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فمعنى تعلّق العلم بالآن ، وإن كان الباري لم يزل عالما ليس لعلمه أول ، ولكن وجهه أنّ الباري تعالى يعلم الشيء قبل أن يكون ، وهو عالم الغيب ، وهو به عالم ، إذا كان بذلك العلم الأول فإنه عالم الشهادة وبعد الشيء ، فيكون به عالما بذلك العلم بعد عدمه ، ويتعلق علمه الواحد الذي لا أوّل له بالمعلومات على اختلافها وتغيّر أحوالها ، وعلمه لا يختلف ولا يتغيّر.
وقد ضربنا لذلك مثالا يستروح إليه الناظر ؛ وهو أنّ الواحد منا يعلم اليوم أن الشمس تطلع غدا ، ثم يراها طالعة ، ثم يراها غاربة ، ولكل واحدة من هذه الأحوال علم مجدّد لما يتعلق بهذه الأحوال الثلاثة ، ولو قدرنا بقاء العلم الأول لكان واحدا يتعلق بها ، وعلم الباري واجب الأولية ، واجب البقاء ، يستحيل عليه التغيّر ؛ فانتظمت المسألة ، وتمكّنت بها ـ والحمد لله ـ المعرفة.
المسألة الخامسة ـ فلما خفّف عنا أوجب على الرجل الثبات لرجلين ، وهكذا ما تزايدت النسبة الواحدة (١) باثنين ، فإنه يتقدم إليهما ، ويتقدمان إليه ، وكل واحد منهما يحذره على نفسه ، فيهجم على الواحد فيطعنه ، فإذا قتله بقي واحد بواحد ، وإن اقتتلا فقد حصل (٢) دم واحد بواحد ، وبقي الزائد لغوا ، وهذا إنما يكون مع الصبر ، والله مع الصابرين.
وقد روى ابن وهب عن مالك في الرجل يلقى عشرة ـ قال : واسع له أن ينصرف إلى معسكره إن لم تكن له قوة على قتالهم.
وهذا دليل على أنه يجوز له أن يثبت معهم ، وهي :
المسألة السادسة ـ وقد قال قوم : لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير ؛ لأن في ذلك إلقاء اليد إلى التهلكة.
وقد بيّنا بطلان ذلك في سورة البقرة. قال أشهب : قال مالك : قال الله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ؛ فكان كلّ رجل باثنين.
__________________
(١) في ل : القسمة لواحد باثنين.
(٢) في ا : حصن.