وقد اختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول ، فأما جوازه ، بل وجوبه ، في مسائل الفروع فصحيح ، وهو قبول قول العالم من غير معرفة بدليله ؛ ولذلك منع العلماء أن يقال : إنا نقلّد النبىّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنا إنما قبلنا قوله بدليل ظاهر ، وأصل مقطوع به ، وهو المعجزة التي ظهرت على يده موافقة لدعواه ، ودالّة على صدقه.
وقد بينا أحكام التقليد ووجهه (١) في كتب الأصول.
لبابه أنه فرض على العامي إذا نزلت به نازلة أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته ، فيمتثل فيها متواه ، وعليه الاجتهاد في معرفة [أعلم] (٢) أهل وقته بالبحث عن ذلك ، حتى يتّصل له الحديث بذلك ويقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضا فرض أن يقلّد عالما مثله في نازلة خفى عليه فيها وجه الدليل والنظر ، وأراد أن يردّد فيها الفكر ، حتى يقف على المطلوب ؛ فضاق الوقت عن ذلك ، وخيف على العبادة أن تفوت ، أو على الحكم أن يذهب في تفصيل طويل ، واختلاف كثير ، عوّلوا منه على ما أشرنا لكم إليه.
المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) :
هذه إشارة إلى أن الأدلة والاحتجاجات لا تكون ، بمحتمل ، وإنما يقع الاتباع (٣) فيها بما خرج من الاحتمال ، ووجبت له الصحة في طرق الاستدلال ؛ لأن قولهم : وجدنا عليه آباءنا ، فنحن نقتدي بهم في أفعالهم ، ونمتثل ما شاهدناه من أعمالهم ، ولم يثبت عندهم أن آباءهم بالهدى عاملون ، وعن غير الحق معصومون ، ونسوا أنّ الباطل جائز عليهم ، والخطأ والجهل لا حق بهم ؛ فبطل وجه الحجة فيه ، ووضح العمل بالدليل بشروطه حسبما قررناه من شروط الأدلة في كتب الأصول.
الآية الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى (٤) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
__________________
(١) في ل : ووجوهه.
(٢) من ل.
(٣) في ل : الإقناع.
(٤) الآية الخامسة بعد المائة.