وقد روى جرير بن عبد الله البجلي قال : أصبت صيدا ، وأنا محرم ، فأتيت عمر ابن الخطاب ، فأخبرته ، فقال : ائت رجلين من أصحابك فليحكما عليك ، فأتيت عبد الرحمن ابن عوف وسعدا ، فحكما عليّ بتيس أعفر.
وهو أيضا دليل على أنه يجوز أن يتولّى فصل القضاء رجلان ، وقد منعته الجهلة ؛ لأنّ اختلاف اجتهادهما يوجب توقّف الأحكام بينهما وقد بعث صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن ، كلّ واحد على مخلاف ، وبعث أنيسا إلى المرأة المرجومة ، ولم يأت الاشتراك في الحكم إلا في هذه النازلة ؛ لأجل أنها عبادة لا خصومة فيها ، فإن اتفقا لزم الحكم كما تقدم. وإن اختلفا نظر في غيرهما.
وقال محمد بن الموّاز : ولا يأخذ بأرفع قولهما ؛ يريد لأنه عمل بغير تحكيم ، وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي ، إذا حكما به ، إلى الطعام ؛ لأنه أمر قد لزم ـ قاله ابن شعبان ؛ وقال ابن القاسم : إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا ، فأراد (١) أن ينتقل إلى الطعام جاز.
وفي هذه الرواية تجاوز من وجهين : أحدهما ـ قوله : إن أمرهما أن يحكما بالمثل ؛ وليس الأمر إليه ، وإنما يحكّمهما ، ثم ينظران في القضية ، فما أدّى إليه اجتهادهما لزمه ، ولا يجوز له أن ينتقل عنه. وهو الثاني لأنه نقض لحكمهما (٢) ؛ وذلك لا يجوز لالتزامه لحكمهما.
المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) :
المعنى إذا حكما بالمثل يفعل به ما يفعل بالهدى ، يقلّده ويشعره ، ويرسله إلى مكة وينحره بها ، ويتصدق به فيها ؛ لقوله تعالى : (هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ) ، وهي :
المسألة الثالثة والعشرون ـ ولا خلاف في أنّ الهدى لا بدّ له من الحرم. واختلف هل يفتقر إلى حلّ معه؟ فقال مالك : لا بدّ له من ذلك يبتاع بالحل ، ويقلد ويشعر ، ويدفع إلى الحرم.
وقال الشافعى : لا يحتاج إلى الحل. وحقيقة قوله تعالى : (بالِغَ الْكَعْبَةِ) يقتضى أن يهدى من مكان يبلغ منه إلى الكعبة ، ولم يرد الكعبة بعينها ؛ فإنّ الهدى لا يبلغها ، إذ هي
__________________
(١) في ل : وإن أراد.
(٢) في ل : لأنه نقض تحكيمهما.