وخالفنا أبو حنيفة والشافعىّ وقالا : القول قول الراهن.
وما قلناه يشهد له ظاهر القرآن كما قدمناه.
وعادة الناس في ارتهانهم ما يكون قدر الدين في معاملتهم. فإذا قال المرتهن : ديني مائة ، وقال الراهن : خمسون ، صار الرهن شاهدا يحلف المدعى معه كما يحلف مع الشاهد. وإن قال المرتهن : ديني مائة وخمسون صار مدّعيا في الخمسين.
ولو هلك الرّهن فقد قال أصحاب الشافعى : لا يسقط الدين ، لأنّ الرهن وثيقة ، وظنّوا بنا أنّ الدّين يسقط بهلاك الرهن ، ونحن نقول : إنما نستوفى به إذا هلك ، وكان مما يعاب عليه ، وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف.
المسألة التاسعة والأربعون ـ قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).
معناه إن أسقط الكتاب والإشهاد والرهن ، وعوّل على أمانة المعامل ، فليؤدّ الذي ائتمن الأمانة وليتّق الله ربّه.
وقد اختلف العلماء في ذلك كما بيناه ، ولو كان الإشهاد واجبا لما جاز إسقاطه ، وبهذا يتبيّن أنه وثيقة ، وكذلك هو عندنا في النكاح.
وقال المخالفون : هو واجب في النكاح ، وسيأتى في سورة الطلاق إن شاء الله تعالى.
وقد قال بعض الناس : إنّ هذا ناسخ للأمر بالإشهاد ، وتابعهم جماعة ؛ ولا منازعة عندنا في ذلك ؛ بل هو جائز ، وحبذا الموافقة في المذهب ، ولا نبالى من الاختلاف في الدليل.
وجملة الأمر أن الإشهاد حزم ، والائتمان وثيقة بالله من المداين ، ومروءة من المدين ، وفي الحديث الثابت الصحيح عن أبى هريرة (١) قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : ذكر أنّ رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بالشهداء أشهدهم ، فقال : كفى بالله شهيدا. قال : فأتنى بالكفيل. قال : كفى بالله كفيلا. قال : صدقت. فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج الرجل في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركبا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجّله فلم يجد مركبا ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها
__________________
(١) ابن كثير : ١ ـ ٣٣٤