في نفسه ـ أصانع القوم بما لا ينفعهم ولا يضرّ الحسين كي لا يظنوا أنّي خرجت من طاعة ـ ولمّا امتنع عليه الوئام بين إحياء العقيدة وإرادة الحياة استجاب إلى صوت ضميره الحي وقام بواجب الحقّ فضحّى بحياته وحياة ولده في سبيل إحياء إيمانه الصّادق.
قدّم الحرّ عقيدته على حياته ، وقدّم الضّحاك حياته على عقيدته ، ولم يكن هذا الفارق الوحيد بين الرّجلين ، فقد بعث منظر القتل ، والقتلى في نفس الحرّ الشّجاعة والإقدام على الموت ، بينما بعث في نفس الضّحاك الجبن لذى أدّى به إلى الهزيمة والفرار. فرّ الضّحاك رغبة في البقاء على نفسه وأهله ، وقدّم الحرّ ولده الشّاب إلى المذبحة طيّب النّفس ، ولمّا رآه قتيلا يتخبط بدمه قال : الحمد لله يا بني الّذي نجّاك من القوم الظّالمين ، ومنّ عليك بالشّهادة بين يدي إمامك.
أنّ تطوع الحرّ في جيش ابن زياد وموقفه من الحسين باديء ذي بدء لا يدل على عقيدته ودخيلة نفسه السّامية ، كما أنّ انضمام الضّحاك إلى الإمام منذ اللّحظة الأولى إلى قرب الشّوط الأخير لا ينبيء عن زهده في الشّهادة لأجل الحقّ ، بل يشعر بالإقدام والتّضحية.
من هذه المقارنة يدرك البصير أنّ ثوب الوطنية والطّنطنة والتّهويل ، لا يدل على الإخلاص والتّضحية ، كما أنّ الهدوء وعدم الثّرثرة والتّشدق بالألفاظ الفارغة لا تكشف عن الخيانة والجبن ولكن :
إذا اشتبكت (١) دموع في خدود |
|
تبين من بكى ممّن تباكى (٢) |
__________________
(١) في بعض المصادر (انسكبت) وفي البعض (اشتبهت) وفي البعض (استبكت).
(٢) ينسب هذا الشّعر تارة إلى حكيم من حكماء العرب كما في تفسير القرطبي : ٨ / ٢٣٠ ، وتارة إلى ـ