لا تحتاج وسائط مادية خارقة ، ولو كان بالروح لما قالت له أم هاني : لا تحدّث به قومك فيكذبونك ، ولما ارتدّ بعض ضعاف الإيمان لأنهم علموا أنّه يقول بأنه انتقل بجسده وروحه ، ولما سمّي الصدّيق صدّيقا للحديث المذكور سابقا.
إذن ، فالأساس العقلاني واللغوي والاعتباري ومجريات الأحداث ، بعد إخبار الرّسول صلىاللهعليهوسلم لهم وإنكارهم عليه ، كان كل هذا مقنعا حقا لكي يجمع جمهور علماء المسلمين على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد حقيقة ويقظة لا مناما ، أما مسألة السرعة الخارقة غير المعروفة لدى القدماء فكانت هذه من أكبر القضايا التي كان عليهم أن يبرهنوا عليها عقليا ، ومن باب الإمكانية المطلقة ، لكي يمكن فهم حقيقة معجزة الإسراء والمعراج ضمن محدودية مفاهيمهم وأفكارهم آنذاك! ولعل أكثر الذين أولوا هذه المعجزة اهتماما بتفسيرها هو شيخ المفسرين الفخر الرازي في تفسيره الكبير.
وقد طرح الفخر الرازي المسألة معتمدا على منطق الجواز العقلي والإمكانية المتاحة ، يقول : «الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله قادر على جميع الممكنات ، وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع» ، ويبدأ بالبرهنة على إمكانية وجود هذه السرعة من خلال عدة براهين ، بعضها يتعلّق بمفاهيم قديمة لعلم الفلك ، وبعضها يتعلّق بالمنطق العقلي والكلامي ، ونلخص بعض هذه البراهين العقلية كما يلي (١) :
١) يرى أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش ، كذلك يجب أن يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم ، فإن كان القول بمعراج محمّد صلىاللهعليهوسلم في الليلة الواحدة ممتنعا في العقول ، كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا.
٢) إن أرباب الملل والنحل يسلّمون بوجود إبليس ، ويسلّمون بأنّه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ، ويسلمون بأنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم ، فلمّا جوّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلّموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى.
٣) يستشهد الرازي بأن الرياح كانت تسير بسليمان شهرا إلى المواضع البعيدة ، كما
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ـ الفخر الرازي ، ج ٢ ، ص ١٤٨ ـ ١٥٠.