الناس ، والذي صارت فيه العلوم أساس الحياة والحضارة الإنسانية».
إن همّ البشرية اليوم هو همّ علمي ، فقد انكشف الغطاء للعقل الإنساني في هذا العصر ما لم يتكشف له منه في أيّ عصر مضى من تاريخ الإنسانية ، وإحساس الإنسان بموقعه المتميز في الكون والحياة جاءه اليوم من خلال الاكتشافات العلمية ، وتوظيف النظرية العلمية في الصناعات والتكنولوجيا ، التي استطاع من خلالها أن يصل إلى القمر فيمشي عليه متبخترا ، كما استطاع أن يسبر أعماق الذرة والكون والمجرات والسدم مستخدما لحسابه السنين الضوئية ، كما استطاع أن يسبر أعماق الذرة ليصل إلى أخطر قانون علمي اكتشف حتى الآن وهو تحول الطاقة إلى مادة ، والمادة إلى طاقة ، وفي علوم الحياة بحث أسرار الخلية الحية حتى تعرّف على اللغة الكيميائية في أعماق الخلية ، وبدأ يدرس الهندسة الحيوية والوراثية ويتحكم في صفات الجنس البشري.
لقد أصبح العالم كمادة في يد العالم المعاصر كالعجينة في يد الخباز يدوّرها ويمطّها كما يشاء ، هكذا العالم الذي تتلاعب به قوانين الكتلة والطاقة والسرعة حتى حطمته وكشفت مجهولاته التي كانت في السابق تحكمها الأساطير والخرافات والمعقولات الساذجة والفجّة ، بل إن الإنسان أخذ يتحدّث عن تاريخ العالم والكون بداية ونهاية ، ويحسب دوران الفلك والفضاء وانتهاءه إلى أمده أو عمره الكيمياوي والفيزياوي ، وقد غابت المستحيلات العقلية التي كانت تحجم الفكر عند حدود ضيقة ، وهكذا طار الإنسان في الفضاء يلاحق النجوم والكواكب والمجرات ، ويطلق الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية إلى أعماق الكون علّه أن يجد حافّة الكون ليبحث وراءه عمّا يكون هناك ، وتعمّق في الذرة تحليلا حتى بلغ اللامنظور ، وتبخّرت تسميات المادة التي تحوّلت إلى طاقة شعاعية فحسب ، مما قضى على مفهوم المادة والجسمية بالمعاني القديمة ليدخل بدلها مفهوم الضوء والطاقة.
إذن ، حتى اللغة العلمية ومصطلحاتها اليوم أصبحت تختلف اختلافا كبيرا جدا ، بل ومتناقضا مع مفردات اللغة القديمة ومفاهيمها ، فكيف استطاع القرآن ، في هذا العصر الذي كل ما فيه علم في علم ، أن يفرض إعجازه علميا على هذا العصر ذي اللغة المختلفة كليا؟ بل وكيف يمكن للقرآن أن يدخل مجال هذه العلوم ليتجاوزها وهو أصلا كتاب هداية واعتبار وليس كتاب علم واختبار ، كما أجمع عليه السلف والخلف؟ يقول عبد الله خلاف عن ذلك في كتابه «علم أصول الفقه» (١) : «القرآن
__________________
(١) علم أصول الفقه ـ عبد الله خلاف ، ص ٢٩.