النضير ، والثاني يخص المنافقين ، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل : مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان (إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) أبد الآبدين (وَذلِكَ) أي الخلود في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) على الإطلاق دون المذكورين خاصة ، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله : (إِنِّي أَخافُ) إلخ.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس ، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية ، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة ، وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر ، ومعنى (اكْفُرْ) على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض ، وقال الخفاجي : لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل.
وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال : اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاءوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال : أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال ، فذلك قوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) الآية ، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب ، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص ، وفي البحر إن قول الشيطان : «إني أخاف الله» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم ؛ وقرئ أنا بريء ، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم ابن أرقم ـ فكان عاقبتهما ـ بالرفع على أنه اسم كان ، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور.
وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة ـ خالدان ـ بالألف على أنه خبر إن ، (وَفِي النَّارِ) متعلق به ، وقدم للاختصاص ، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره ، وجوز أن يكون «في النار» خبر إن ، و ـ خالدان ـ خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) في كل ما تأتون وتذرون (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه ، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة ، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل : «لغد» لا يعرف كنهه لغاية عظمه ، وأما تنكير (نَفْسٌ) فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل : ولتنظر نفس واحدة في ذلك ، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها ، ومنه ظهر ـ كما في الكشف ـ أن جعله من قبيل قوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) [التكوير : ١٤] غير مطابق للمقام أي فهو كما في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل ، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر ، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت ، وليس بذاك ، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث ـ ولتنظر ـ بكسر اللام ، وروي ذلك عن حفص عن عاصم ، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء