لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل : (وَيُعَذِّبَ) وقال بعض الأجلة : إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل : أو يقبل توبتهم إن تابوا ، وحذف الشرط لظهور استلزام المذكور له ، ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه ، وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس ، وأيا ما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها ، والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى أن شاء عذبهم بإبقائه منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان. وقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران إقامة على النفاق ، وتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجار واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله تعالى (لِيُعَذِّبَ) ليديم على النفاق قوله سبحانه : (إِنْ شاءَ) ومعادلته بالتوبة وحرف (أَوْ) انتهى ، وأراد بذلك حل الإشكال ، وكأن ما ذكره يؤول إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الاحتباك ، قال في البحر : وهذا من الإيجاز الحسن ، وقال السدي : المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان ، وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفقة دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من استشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم ، وقيل لذلك أيضا : إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها ، وحكي هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور ، وقد يقال : المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] على أن ذلك كالاسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الاشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانا وفلانا مثلا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم ، ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه : (بِصِدْقِهِمْ) تصريحا بما يفهم من السياق ، ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الاكتفاء حيث قال في معنى الآية : ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولا وفعلا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية ، قيل : ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه : (أَوْ يَتُوبَ) إلخ فإنه يستدعي فعلا خاصا بهم فتأمل ، والظاهر أن اللام في (لِيَجْزِيَ) للتعليل ، والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفي التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلا كما بدّل المنافقون فقوله : (لِيَجْزِيَ) و (يُعَذِّبَ) متعلق بالمنفي والمثبت على اللف والنشر التقديري ، وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الاستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل ، وقيل : إن اللام للعلة حقيقة بالنظر إلى المنطوق ومجازا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه.
وقيل : لا يبعد جعل (لِيَجْزِيَ) إلخ تعليلا للمنطوق المقيد بالمعرض به فكأنه قيل : ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب ، وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره ، وبضدها تتبين الأشياء ، وقيل: تعليل لصدقوا وحكي ذلك عن الزجاج ، وقيل : لما يفهم من قوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) وقيل : لما