دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالألم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لا ينكر عليه إن تغير وصدر عنه ما صدر ، وأعظم من يوسف عليهالسلام في هذا الباب عند ذوي الأبصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الإلهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام فإنه لعمري أبو الأنوار ، وما نور يوسف بالنسبة إلى نوره عليه الصلاة والسلام إلا النجم وشمس النهار.
لواحى زليخا لو رأين جبينه |
|
لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي |
وقلن : (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) قلن ذلك إعظاما له عليهالسلام من أن يكون من النوع الإنساني ، قال محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما : أردن ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والأول أوفق بقولها : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أرادت أن لو مكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه ، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له :
خليلي إني قلت بالعدل مرة |
|
ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر |
وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن اللوم لا يصدر إلا عن خلي ، ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ما صنع الهوى بهن وما أحسن ما قيل :
وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى |
|
ضحكت وهم يبكون في حسرات |
فصرت إذا ما قيل هذا متيم |
|
تلقيتهم بالنوح والعبرات |
وقال سلطان العاشقين :
دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى |
|
فإذا عشقت فبعد ذلك عنف |
(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) قيل : لأن السجن مقام الانس والخلوة والمناجاة والمشاهدات والمواصلات وفيما يدعونه إليه ما يوجب البعد عن الحضرة والحجاب عن مشاهدة القربة ، وقيل : طلب السجن ليحتجب عن زليخا فيكون ذلك سببا لازدياد عشقها وانقلابه روحانيا قدسيا كعشق أبيه له ، وقال ابن عطاء : ما أراد عليهالسلام بطلب ذلك إلا الخلاص من الزنا ولعله لو ترك الاختيار لعصم من غير امتحان كما عصم في وقت المراودة (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) قال أبو علي : أحسن الناس حالا من رأى نفسه تحت ظل الفضل والمنة لا تحت ظل العمل والسعي (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) دعاء إلى التوحيد على أتم وجه ، وحكي أن رجلا قال للفضيل : عظني فقرأ له هذه الآية (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) كان ذلك على ما قيل غفلة منه عليهالسلام عما يقتضيه مقامه ويشير إليه كلامه ، ولهذا أدبه ربه باللبث في السجن ليبلغ أقصى درجات الكمال والأنبياء مؤاخذون بمثاقيل الذر لمكانتهم عند ربهم ، وقد يحمل كلامه هذا على ما لا يوجب العتاب كما ذهب إليه بعض ذوي الألباب (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) قال أبو حفص : الصديق من لا يتغير عليه باطن أمره من ظاهره ، وقيل : الذي لا يخالف قاله حاله ، وقيل : الذي يبذل الكونين في رضا محبوبه (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) إشارة إلى أن النفس بطبعها كثيرة الميل إلى الشهوات ؛ قال أبو حفص : النفس ظلمة كلها وسراجها التوفيق فمن لم يصحبه التوفيق كان في ظلمة ، وقد تخفى دسائس النفس إلى حيث تأمر بخير وتضمر فيه شرا ولا يفطن لدسائسها إلا لوذعي :
فخالف النفس والشيطان واعصهما |
|
وإن هما محضاك النصح فاتهم |
وذكر بعض السادة أن النفس تترقى بواسطة المجاهدة والرياضة من مرتبة كونها أمارة إلى مرتبة أخرى من كونها