النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران ، وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤] ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره ، وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملئوها بالجهالات أو لخلوها كما قيل : عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار ، ووجهه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رءوس الأشهاد. وقرئ برفع الوجوه ونصب «النار» كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا. وقرئ «تغشى» أي تتغشى بحذف إحدى التاءين ، والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة.
وفي الكشف وأفاد العلامة الطيبي أن ـ مقرنين ـ سرابيلهم من قطران ـ تغشى ـ أحوال من مفعول (تَرَى) جيء بها كذلك للترقي ؛ ولهذا جيء بالثانية جملة اسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد ، وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى : (وَتَرَى) لأن الثاني أهول ؛ والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار ، والأخيرين لبيان حالهم بعد دخولها ، وكأن الأول حرك من السامع أن يقول : وإذا كان هذا شأنهم وهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون؟ فأجيب بقوله سبحانه : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا ، وأكثر المعربين على عدم الانقطاع (لِيَجْزِيَ اللهُ) متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه (كُلَّ نَفْسٍ) أي مجرمة بقرينة المقام (ما كَسَبَتْ) من أنواع الكفر والمعاصي جزاء أو وفاقا ، وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم ، وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب ، مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل :
من عاش بعد عدوه |
|
يوما فقد بلغ المنى |
ويجوز على اعتبار العموم تعلق اللام ـ ببرزوا ـ على تقدير كونه معطوفا على (تُبَدَّلُ) والضمير للخلق ويكون ما بينهما اعتراضا فلا اعتراض أي برزوا للحساب ليجزي الله تعالى كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لأنه لا يشغله سبحانه فيه تأمل وتتبع ولا يمنعه حساب عن حساب حتى يستريح بعضهم عند الاشتغال بمحاسبة الآخرين فيتأخر عنهم العذاب ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد سريع الانتقام ، وذكر المرتضى في درره وجوها أخر في ذلك. (هذا بَلاغٌ) أي ما ذكر من قوله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) إلى هنا ، وجوز أن يكون الإشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو (بَلاغٌ) والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل : هذا المذكور آنفا كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع ، وأصل البلاغ بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية ، وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى (لِلنَّاسِ) للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله سبحانه : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ) أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين على ما قيل : (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلي ، وقال الماوردي : الواو زائدة ، وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وإنذار ، ولعله تفسير معنى لا إعراب. وقال ابن عطية : أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبرا لهو محذوفا ، وقيل : اللام لام الأمر ، قال بعضهم : وهو حسن لو لا قوله سبحانه : (وَلِيَذَّكَّرَ) فإنه منصوب لا غير ،