واستدل بالآية على أن شكر المنعم واجب وهو مما أجمع عليه السنيون والمعتزلة إلا أن الأولين على وجوبه شرعا والآخرين على وجوبه عقلا ، وهو مبني على قولهم بالحسن والقبح العقليين ، وقد هد أركانه أهل السنة ، على أنه لو قيل به لم يكد يتم لهم الاستدلال بذلك في هذا المقام كما بين في محله (وَقالَ مُوسى) لهم : (إِنْ تَكْفُرُوا) نعمه سبحانه ولم تشكروها (أَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الناس وقيل من الخلائق (جَمِيعاً) لم يتضرر هو سبحانه وإنما يتضرر من يكفر (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكركم وشكرهم (حَمِيدٌ) مستوجب للحمد بذاته تعالى لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمده أحد أو محمود تحمده الملائكة عليهمالسلام بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده ، والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله جل وعلا ، وهو تعليل لما حذف من جواب (إِنْ تَكْفُرُوا) كما أشرنا إليه ، ثم إن موسى عليهالسلام بعد أن ذكرهم أولا بنعمائه تعالى عليهم صريحا وضمنه بذكر ما أصابهم من الضراء ، وأمرهم ثانيا بذكر ما جرى منه سبحانه من الوعد بالزيادة على الشكر والوعيد بالعذاب على الكفر وحقق لهم مضمون ذلك ، وحذرهم من عند نفسه عن الكفران ثالثا لما رأى منهم ما يوجب ذلك شرع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الدارجة فقال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبي المؤمن والكافر فيتم له عليهالسلام مقصوده منهم. وجوز أن يكون من تتمة قوله عليهالسلام : (إِنْ تَكْفُرُوا) إلخ على أنه كالبيان لما أشير إليه في الجواب من عود ضرر الكفران على الكافر دونه عزوجل ، وقيل : هو من كلامه تعالى جيء تتمة لقوله سبحانه : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) إلخ وبيانا لشدة عذابه ونقل كلام موسى عليهالسلام معترض في البين وهو كما ترى ، وقيل : هو ابتداء كلام منه تعالى مخاطبا به أمة محمد صلىاللهعليهوسلم بعد ما ذكر إرساله عليه الصلاة والسلام بالقرآن وقص عليهم من قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع أمته ولعل تخصيص تذكيرهم بما أصاب أولئك المعدودين مع قرب غيرهم إليهم للإشارة إلى أن إهلاكه تعالى الظالمين ونصره المؤمنين عادة قديمة له سبحانه وتعالى ، ومن الناس من استبعد ذلك.
(قَوْمِ نُوحٍ) بدل من الموصول أو عطف بيان (وَعادٍ) معطوف على قوم نوح (وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد هؤلاء المذكورين عطف على قوم نوح وما عطف عليه ، وقوله تعالى : (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) اعتراض أو الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره وجملة المبتدأ وخبره اعتراض ، والمعنى على الوجهين أنهم (١) من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، ومعنى الاعتراض على الأول ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها إن في ذلك لمعتبرا ، وعلى الثاني هو ترق ومعناه ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى عددهم كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع في الحصر ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل ولذا جعله الزمخشري أول الوجهين ، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : بين عدنان وإسماعيل عليهالسلام ثلاثون أبا لا يعرفون ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمهما عن العباد أظهر فيه على ما قيل.
ومن هنا يعلم أن ترجيح الطيبي الوجه الأول بما رجحه به ليس في محله : واعترض أبو حيان القول بالاعتراض بأنه لا يكون إلا بين جزءين يطلب أحدهما الآخر وما ذكر ليس كذلك ، ومنع بأن بين المعترض بينهما ارتباطا يطلب به
__________________
(١) إلا أن مرجع الضمير في أنهم مختلف اه منه.