تكون لغوا متعلقة بما في الظرف أعني (لَهُمْ) من معنى الفعل وهي للابتداء ، والمعنى ما حصل لهم من رحمة الله تعالى واق من العذاب (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي نعتها وصفتها كما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن عكرمة ، فهو على ما في البحر من مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، ومنه (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [الروم : ٢٧] أي الصفة العليا ، وأنكر أبو علي ذلك وقال : إن تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ولم يوجد فيها وإنما معناه الشبيه.
وقال بعض المحققين : إنه يستعمل في ثلاثة معان. فيستعمل بمعنى الشبيه في أصل اللغة ، وبمعنى القول السائر المعروف في عرف اللغة ، وبمعنى الصفة الغريبة ، وهو معنى مجازي له مأخوذ من المعنى العرفي بعلاقة الغرابة لأن المثل إنما يسير بين الناس لغرابته ، وأكثر المفسرين على تفسيره هنا بالصفة الغريبة ، وهو حينئذ مبتدأ خبره ـ عند سيبويه ـ محذوف أي فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة (الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي عن الكفر والمعاصي ، وقدر مقدما لطول ذيل المبتدأ ولئلا يفصل بينه وبين ما يتعلق به معنى ، وقوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) جملة مفسرة ـ كخلقه من تراب ـ في قوله سبحانه : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩] أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من العائد المحذوف من الصلة أي التي وعدها ، وقيل : هي الخبر على طريقة قولك : شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه. واعترض بأنه غير مستقيم معنى لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة وهي فيها لا في صفتها ، وفيه أيضا تأنيث الضمير العائد على «مثل» حملا على المعنى ، وقد قيل : إنه قبيح. وأجيب بأن ذاك على تأويل أنها تجري ، فالمعنى مثل الجنة جريان الأنهار أو أن الجملة في تأويل المفرد فلا يعود منها ضمير للمبتدإ أو المراد بالصفة ما يقال فيه هذا إذا وصف ، فلا حاجة إلى الضمير كما في خبر ضمير الشأن.
وقال الطيبي : إن تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الجنة لا إلى المثل ، وإنما جاز ذلك لأن المقصود من المضاف عين المضاف إليه وذكره توطئة له وليس نحو غلام زيد. وتعقب كل ذلك الشهاب بأنه كلام ساقط متعسف لأن تأويل الجملة بالمصدر من غير حرف سابك شاذ ، وكذا التأويل بأنه أريد بالصفة لفظها الموصوف به وليس في اللفظ ما يدل عليه وهو تجوز على تجوز ولا يخفى تكلفه ، وقياسه على ضمير الشأن قياس مع الفارق ، وأما عود الضمير على المضاف إليه دون المبتدأ في مثل ذلك فأضعف من بيت العنكبوت فالحزم الإعراض عن هذا الوجه ، وعن الزجاج أن الخبر محذوف والجملة المذكورة صفة له ، والمراد مثل الجنة جنة تجري إلى آخره ، فيكون سبحانه قد عرفنا الجنة التي لم نرها بما شاهدناه من أمور الدنيا وعايناه. وتعقبه أبو علي ـ على ما في البحر ـ بأنه لا يصح لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون صفة لأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين الشيئين وهو حدث فلا يجوز الإخبار عنه بالجنة الجنة. ورد بأن المراد بالمثل المثيل أو الشبيه فلا غبار في الاخبار ، وقيل : إن التشبيه هنا تمثيلي منتزع وجهه من عدة أمور من أحوال الجنان المشاهدة من جريان أنهارها وغضارة أغصانها والتفاف أفنانها ونحوه ، ويكون قوله تعالى : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) بيانا لفضل تلك الجنان وتمييزها عن هذه الجنان المشاهدة ، وقيل : إن هذا بيان لحال جنان الدنيا على سبيل الفرض وأن فيما ذكر انتشارا واكتفاء في النظير بمجرد جريان الأنهار وهو لا يناسب البلاغة القرآنية وهو كما ترى.
ونقل عن الفراء أن الجملة خبر أيضا إلا أن المثل بمعنى الشبه مقحم ، والتقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار إلى آخره ، وقد عهد إقحامه بهذا المعنى ، ومنه قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وتعقبه أبو حيان بأن إقحام الأسماء لا يجوز ، ورد بأنه في كلامهم كثير ـ كثم اسم السلام عليكما ـ ولا صدقة إلا عن ظهر غني ـ إلى غير ذلك ، والأولى بعد القيل والقال الوجه الأول فإنه سالم من التكلف مع ما فيه من الإيجاز والإجمال