وكان أبو ذرّ رحمه الله يقول : «يا مبتغي العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرّ ، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك ووَرِقِك».
يا هشام! بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين ، يطري أخاه إذا شاهده ، ويأكله إذا غاب عنه ، إن أُعطي حسده ، وإن ابتُلي خذله ، إنّ أسرع الخير ثواباً البرّ ، وأسرع الشرّ عقوبةً البغي ، وإنّ شرّ عباد الله من تكره مجالسته لفحشه ، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه(١).
يا هشام! لا يكون الرجل مؤمناً حتّى يكون خائفاً راجياً ، ولا يكون خائفاً راجياً حتّى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو.
يا هشام! قال الله جلّ وعزّ : وعزّتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوّي في مكاني ، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلاّ جعلت الغنى في نفسه ، وهمّه في آخرته ، وكففت عليه في ضيعته(٢) ، وضمنت السماوات
____________
= وغانم وشاجب أي هالك؛ يقال : شجب يشجب فهو شاجب ، وشجب يشجب فهو شجب ، أي إمّا سالم من الاِثم ، أو غانم للاَجر ، وإمّا هالك آثم.
(١) «يطري أخاه إذا شاهده ، ويأكله إذا غاب عنه» أي يحسن الثناء ويبالغ في مدحه إذا شاهده ، ويعيبه بالسوء ويذمّه إذا غاب.
«خذله» أي ترك نصرته.
«البغي» التعدّي والاستطالة والظلم ، وكلّ مجاوزة عن الحدّ.
«وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم» أي ما يقطعونه من الكلام الذي لا خير فيه ، واحدتها حصيدة تشبيهاً بما يحصد من الزرع ، وتشبيهاً للّسان وما يقطعه من القول بحدّ المنجل الذي يحصد به. النهاية لابن الاَثير ١/٣٩٤.
«ومـن حسن إسـلام المـرء تركـه مـا لا يعنيـه» يقـال : هذا أمـر لا يعنيني ، أي لا يشغلني ولا يهمّني.
(٢) في بعض النسخ : صنعته.