فبعد أمر الله بذلك لا يتوجه الإنكار وطلب العلّة والمصلحة فلا يبعد أن يكون المقول في الجواب هذا المقدار لا غير ، كما هو المناسب لترك تطويل الكلام مع السفهاء ، وعدم الاشتغال ببيان خصوص مصلحة مصلحة.
فما بعد هذا خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوآله تسلية له عن عدم إيمانهم وامتنانا عليه وعلى المؤمنين بهدايتهم لدين الإسلام ، أو بما هو مقتضى الحكمة والمصلحة ، وتأييدا وتنشيطا لهم ويجوز دخوله في الجواب كما هو ظاهرهم توبيخا لهم ، وتبكيتا على عدم هدايتهم والعناية بتحصيل استعدادها كما لا يخفى.
(يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو ما يقتضيه الحكمة ويستدعيه المصلحة قيل : من توجيههم تارة إلى بيت المقدس ، واخرى إلى الكعبة ، والأوّل مثل توجّههم في تلك الأزمنة إلى بيت المقدس وبعدها إلى الكعبة.
الثاني (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ.) (١٤٣) (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ليست صفة للقبلة ، بل ثاني مفعول جعل أي ما جعلنا القبلة بيت المقدس ، إلّا لامتحان الناس ، كأنه يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان عارضا لغرض.
وقيل : يريد وما جعلنا القبلة الآن الّتي كنت عليها بمكّة أي الكعبة ، وما رددناك إليها إلّا امتحانا ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يصلّي بمكّة إلى الكعبة ، ثمّ أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألّفا لليهود ، ثمّ حوّل إلى الكعبة.
وهذا لم يثبت ، بل الثابت عندنا ما روي عن ابن عباس (١) أنّ قبلته بمكّة كانت بيت المقدس ، إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه ، فربما أمكن أن يراد ذلك باعتبار جعله الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، فكأنه كان قبلة له في الجملة ، ويمكن بوجه
__________________
(١) انظر الكشاف ج ١ ص ٢٠٠ وانظر المجمع ففيه في تفسير الآية بيانات مفيدة لا يستغنى أحد عن الاطلاع عليها.