تكون (مِنَ) تبعيضية لأن ما يبدو جزء من «الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزء ، و (مِنَ) الأولى قيل : لابتداء للغاية ، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد ، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها (إِلى) أو ما يفيد مفادها ـ وما هنا ليس كذلك ـ فالظاهر أنها متعلقة ب (يَتَبَيَّنَ) بتضمين معنى التميز ، والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل ، فالغاية إباحة ما تقدم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) أحدهما من الآخر ويميز بينهما ، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) الفجر ، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة ، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان ، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال : أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إلخ ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني الليل والنهار ، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما ، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم ، ويؤيد ذلك أنه صلىاللهعليهوسلم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح ـ بالبلادة ـ ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد ، فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري. ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال : لما أنزلت هذه الآية (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت انظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال : «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا» وقيل : إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان ـ وهي مبهمة ـ والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر ـ ولا يخفى ما فيه ـ وقال أبو حيان : إن هذا من باب النسخ ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة ، وليس في القرآن ما يدل عليها ، و (أُحِلَ) أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه ، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم ، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح ، وليس بلازم للجماع كالجنابة ، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها ، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها.
واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّا بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه ، وعن سعيد بن منصور مثله ـ وليس بالمنصور ـ والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى ، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر ، وكذا الإمامية وحمل (مِنَ الْفَجْرِ) على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل ،