ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)
(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) متعلق بقوله سبحانه : (قُولُوا آمَنَّا) إلخ ، أو بقوله عز شأنه : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) إلخ ، و ـ إن ـ لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج ، وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته ، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين ـ فلا بأس بحمل كلام الله تعالى عليه ـ يعني نحن لا نقول : إننا على الحق وأنتم على الباطل ، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت ، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير ، إذ لا مثل لما آمنوا به ، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه ـ ولا دين كدينهم ـ ف (آمَنُوا) متعدية ـ بالباء ـ و ـ مثل ـ على ظاهرها ، وقيل : (آمَنُوا) جار مجرى اللازم ـ والباء ـ إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا (فَقَدِ اهْتَدَوْا) أو فإن تحروا ـ الإيمان ـ بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم ، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق ، كما قيل : الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق ، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه ، وإما زائدة للتأكيد ؛ و (ما) مصدرية ؛ وضمير (بِهِ) لله ، أو لقوله سبحانه : (آمَنَّا بِاللهِ) إلخ بتأويل المذكور ، أو للقرآن ، أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، والمعنى (فَإِنْ آمَنُوا) بما ذكر مثل إيمانكم به ، وإما للملابسة ، أي فآمنوا متلبسين (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ) متلبسين به ، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهمالسلام ، وقيل : المثل مقحم كما في قوله تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) [الأحقاف : ١٠] أي عليه ، ويشهد له قراءة أبي «بالذي آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي الله تعالى عنه يقول : اقرءوا ذلك فليس لله تعالى مثل ، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة ـ وخفي عليه معناها ـ ومن الناس من قال : يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال : فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف ، فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون. فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليه ـ ولم يكن ذلك قبله ـ إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم : إن أكرمتني فقد أكرمتك ، فتأمل انتهى. وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره ، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال ، فما ذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال ، وتوسيع دائرة النزاع والجدال ، فتدبر.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به ، أو عن قولكم في جواب قولهم.
(فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) أي مخالفة لله تعالى ـ قاله ابن عباس ـ أو منازعة ومحاربة ـ قاله ابن زيد ـ أو عداوة ـ قاله الحسن ـ واختلف في اشتقاق ـ الشقاق ـ فقيل : من الشق أي الجانب ، وقيل : من المشقة ، وقيل : مأخوذ من قولهم : شق العصا إذا أظهر العداوة ـ والتنوين للتفخيم ـ والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان ، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك ، وإما بتأويل فاعلموا.
(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة ، أو للتذييل الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال ، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق