(وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له : إنما نحن ابتلاء من الله عزوجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان (فَلا تَكْفُرْ) باعتقاده وجواز العمل به ، وقيل : فلا تتعلم معتقدا أنه حق حتى تكفر ، وهو مبني ـ على رأي الاعتزال ـ من أن السحر تمويه وتخييل ومن اعتقد حقيته يكفر ، و (مِنْ) مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق ، وإفراد ـ الفتنة ـ مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا ، والحمل مواطأة للمبالغة ، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه ، و (حَتَّى) للغاية ، وقيل بمعنى إلا ، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير (يُعَلِّمُونَ) والظاهر أن القول مرة واحدة والقول : بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له ، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد : إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما ، وقيل وهو الظاهر : إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات ، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية ، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت : كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت : إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل ، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر ، فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به ، إلى أن قالت : فذهبت فبلت فيه ، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما وذكرت لهما ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان ـ الخبر بطوله ـ فهو ونظائره ـ مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب ـ مما لا يعول عليه ذوو الألباب ، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندلية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام ، واستدل بالآية من جوّز تعلم السحر ، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم ، والتعلم مطاوع له ، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالايجاب والوجوب ، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز كما قدمنا ، وقد ذكر القائلون بالتحريم : أن تعلم السحر إذا فرض فشوّه في صقع ، وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه ـ وإن كان أغلب أحواله التحريم ـ وهذا لا ينافي إطلاق القول به ، ومن قال : إن هاروت وماروت من الشياطين قال : إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا : إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر ، وحينئذ لا استدلال أصلا ، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر ، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين ، وقرأ طلحة بن مصرف ـ يعلمان ـ بالتخفيف من الإعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد ، وقرأ أبيّ بإظهار الفاعل (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما) عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال : يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون ، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج ، وعطفه بعضهم على (يُعَلِّمانِ) محذوفا ، وبعضهم على (يَأْتُونَ) كذلك ، والضمير المرفوع لما دل عليه (أَحَدٍ) وهو الناس أو ـ لأحد ـ حملا له على المعنى كما في قوله تعالى (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وحكى المهدوي جواز العطف على (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) فمرجع