نظرا إلى الوجود ، وإما بأن يجعل الله ـ تعالى وتقدس ـ كالمستهزئ بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلا ، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد. وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ : إما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون ، وإما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال : ـ هلم هلم ـ فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ، ثم يفتح له باب آخر فيقال : هلم هلم ـ فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال : ـ هلم هلم ـ فما يأتيه ، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالناس ، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزئ بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه ، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد ، وقيل : ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين ، وقولهم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام ـ كهم مستهزءون ـ بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة ، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى ـ بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما ـ يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين ، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف ـ ولو بحسب التوهم ـ على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزءون بهم والله يستهزئ بهم لفاتت الفائدتان هذا ، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر ، وعدل سبحانه عن ـ الله مستهزئ بهم المطابق لقولهم ـ إلى قوله (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ مع الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل : (١)
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا |
|
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا |
وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) [التوبة : ١٢٦] (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) [التوبة : ٦٤] وهذا نوع من العذاب الأدنى «ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون» (٢) وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى ـ كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا ـ (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
معطوف على قوله سبحانه وتعالى : (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) كالبيان له على رأي ، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى
__________________
(١) هو المتنبي.
(٢) نص الآية ١٢٧ من سورة طه : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) وفي الزمر والقلم : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ)