لما ضرب أبو الصقر (١) بيني وبين الموفق أوحشه مني حتى حبسني الحبسة المشهورة ، فكنت أتخوف القتل صباح مساء ، ولا آمن أن يبلغه أبو الصقر عني ما يزيد (٢) في غيظه علي فيأمر بقتلي ، فكنت كذلك حتى خرج الموفق إلى الجبل ، فازداد (٣) خوفي ، وأشفقت (٤) أن يكاتبه أبو الصقر. وكان يجيئني (٥) كل يوم مراقبا خبري ، ويريني (٦) أن ذلك خدمة لي ، فدخل إليّ يوما وبيدي المصحف وأنا أقرأ فقال :
أيها الأمير أعطني المصحف لأتفاءل (٧) لك منه ففتحه ، فإذا أول سطر فيه : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (٨).
فتغير وجهه ثم خلط الورق وفتح المصحف ثانية فخرج :
(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٩) فوضع المصحف وقال لي :
أنت الخليفة بلا شك فما حق بشارتي؟
فقلت : الله الله في دمي ، وأسأل الله أن يبقى أمير المؤمنين (١٠) الموفق ، ومثلك في عقلك لا يطلق هذا القول بمثل هذا الإطلاق (١١). فما كان بأسرع من أن قدم الموفق من
__________________
(١) أبو الصقر إسماعيل بن بلبل استوزره الموفق لأخيه المعتمد ، بلغ من الوزارة مبلغا عظيما ، قبض عليه المعتمد فحبسه ، وعاقبه ثم قتله في محبسه ، واستصفى أمواله (راجع الفخري : ١٨٨).
(٢) في الأصل : (أن يبلغه عن أبو الصقر عني ما يريد) ٧٠٠ والصواب ما أثبتناه.
(٣) في الأصل : (فارداد).
(٤) في الأصل : (وشفقنا).
(٥) في الأصل : (يحيى).
(٦) في الأصل : (وبرنني).
(٧) في الأصل : (لاثقال).
(٨) الأعراف : ١٢٩.
(٩) النور : ٥٥.
(١٠) لم يل الموفق بالله الخلافة اسما ، ولكن تولاها فعلا لضعف أخيه المعتمد على الله الذي حجر عليه ، وهكذا ينبغي أن يفهم لقبه ب (أمير المؤمنين) ، يقول عنه صاحب الفخري : ٢٢٦ : (كانت دولة المعتمد دولة عجيبة كان هو وأخوه الموفق طلحة كالشريكين في الخلافة ، للمعتمد الخطبة والسكة والتسمي بإمرة المؤمنين ولأخيه طلحة الأمر والنهي ..).
(١١) في الأصل : (الإنفاق).