ما صنعوا». وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ، وعن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلىاللهعليهوسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية ، فذكرت له ما رأت فيها من الصور ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح ـ أو الرجل الصالح ـ بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله» ، وثبت عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه مالك في الموطأ.
وقد ضيق الرسول صلىاللهعليهوسلم السبيل في وجه تجشم السفر الطويل ، وشد الرحال إلى المشاهد والضرائح ، والأمكنة المتبركة بقوله المأثور المشهور : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ، ومسجد الرسول ، والمسجد الأقصى» (رواه البخاري) ، فوقى بذلك أمته من الوقوع في فتنة المشاهد والآثار ، كما وقع فيها اليهود والنصارى ، والأمم الجاهلية ، وكانت فريسة الشرك والوثنية السافرة أحيانا كثيرة.
لكن طوائف من المسلمين في القديم والحديث لم تعمل بوصيته التي لم ينسها في آخر عهده بالدنيا ، ولم تلق لها بالا ، وافتتنت بالمشاهد ، والآثار ، وشد الرحال إليها من بلدان نائية ، والعكوف عليها تبركا وتعبدا ، افتتانا عظيما ، فكان ذلك تصديقا لقوله ، وتحقيقا لإخباره : «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ، قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال : فمن» (متفق عليه) ، واغتصبت هذه المشاهد والضرائح ـ ومنها ما هو مكذوب ومزور ـ حظ المساجد ، وحظ المسجد الحرام في بعض الأحيان ، وقد جعلها الجهال في كثير من الأقطار (كعبة) يشدون إليها الرحال ، ويقصدونها من نواح بعيدة ، وقد اتخذوها عيدا يعودون إليه فى كل سنة ويجتمعون في عدد كبير ، ويقيمون الأسواق.
وقد أجاد شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية في وصف هذه الطوائف بجملته التاريخية البليغة ، (مشاهدهم معمورة ، ومساجدهم مهجورة (١)) ، والسائح في الأقطار الإسلامية يواجه هذه المشاهد والضرائح ، ومساحاتها الواسعة ، وأبنيتها الضخمة ، وقبابها الرفيعة في كل بلد يمر به ، ويرى هنالك من أعمال شركية كالسجود ، والنذور
__________________
(١) راجع ما قاله شيخ الإسلام في هذا الموضوع في الجزء الأول من منهاج السنة ـ ص ١٣٠ ـ ١٣١.