الراجع في قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) ما يرجع إليه لكنت مستغنيا عن تقديره ؛ لأنى أراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام فلا علىّ أوَلِىَ حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به أم لم يله. ألا ترى إلى قوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) الآية ، كيف ولى الماء الكاف ، وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره. ومما هو بين في هذا قول لبيد :
وما النَّاسُ إلّا كالدِّيَارِ وأَهْلُهَا |
|
بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وغَدْواً بَلَاقِعُ (١) |
لم يشبه الناس بالديار ، وإنما شبه وجودهم في الدنيا وسرعة زوالهم وفنائهم ، بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها ، وتركها خلاء خاوية. فان قلت : أى التمثيلين أبلغ؟ قلت : الثاني ، لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته ، ولذلك أُخر ، وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ. فإن قلت : لم عطف أحد التمثيلين على الآخر بحرف الشك؟ قلت : أو في أصلها لتساوى شيئين فصاعدا في الشك ، ثم اتسع فيها فاستعيرت للتساوى في غير الشك ، وذلك قولك : جالس الحسن أو ابن سيرين ، تريد أنهما سيان في استصواب أن يجالسا ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) ، أى الآثم والكفور متساويان في وجوب عصيانهما ، فكذلك قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) معناه أن كيفية قصة المنافقين مشبهة لكيفيتى هاتين القصتين ، وأن القصتين سواء في استقلال كل واحدة منهما بوجه التمثيل ، فبأيتهما مثلتها فأنت مصيب ، وإن مثلتها بهما جميعا فكذلك. والصيب : المطر الذي يصوّب ، أى ينزل ويقع.
ويقال للسحاب : صيب أيضا. قال الشماخ :
وأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ (٢)
__________________
(١) لم يرد تشبيه الناس بالديار ذاتها ، وإنما أراد تشبيه حالهم مع الدنيا بحال الديار مع أهلها. وقوله : «وأهلها بها» جملة حالية. و «يوم حلوها» نصب بعامل المجرور قبله المحذوف. و «غدوا بلاقع» أى وهي في غد بلاقع ، جمع بلقع : أى قفر خالي. والشائع استعمال «الغد» كاليد ، فظهرت واوه هنا على الأصل. وعبر بالغد ومراده به الزمن القريب ، كما يقال أفعله بكرة. والمراد بعد أيام قليلة ، فالجامع سرعة الفناء والزوال بعد البهجة والنضرة. ولك جعله من تشبيه المفرد بالمفرد بجامع أن الناس تكون فيها الأرواح ، فهي زاهية باهية ، ثم تنزع منها فتصير خالية خاوية كالدار تكون عامرة بأهلها فتصبح خرابا. وهذا على رفع أهلها. وأما على جره عطفاً على الديار فيتعين الأول ، ويكون «بها» متعلق بمحذوف حال من أهلها. والباء بمعنى «في» على التقديرين.
(٢) أرسما جديداً من سعاد تجنب |
|
عفت روضة الأجداد منه فينقب |
عفا آية نسج الجنوب مع الصبا |
|
وأسحم دان صادق الوعد صيب |
للشماخ. وقيل للنابغة الذبياني وقيل للهيثم بن خوار. يقال : جنبه ، باعده أو أصاب جانبه. وعفى المنزل: ـ