في قوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) ، وفي قول امرئ القيس :
كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويابِساً |
|
لَدَى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِى؟ (١) |
قلت : كما جاء ذلك صريحاً فقد جاء مطويا ذكره على سنن الاستعارة ، كقوله تعالى: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) ، (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ). والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه : أنّ التمثلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرّقة ، لا يتكلف الواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، وهو القول الفحل والمذهب الجزل ، بيانه : أنّ العرب تأخذ أشياء فرادى ، معزولا بعضها من بعض ، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك فتشبهها بنظائرها ، كما فعل امرؤ القيس وجاء في القرآن ، وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا ، بأخرى مثلها كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) الآية. الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة ، بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة ، وتساوى الحالتين عنده من حمل أسفار الحكمة وحمل ما سواها من الأوقار ، لا يشعر من ذلك إلا بما يمرّ بدفيه من الكدّ والتعب. وكقوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) المراد قلة بقاء زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضر. فأما أن يراد تشبيه الأفراد بالأفراد غير منوط بعضها ببعض ومصيرة شيئا واحدا ، فلا. فكذلك لما وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم وما خبطوا فيه من الحيرة والدهشة شبهت حيرتهم وشدّة الأمر عليهم بما يكابد من طفئت ناره بعد إيقادها في ظلمة الليل ، وكذلك من أخذته السماء في الليلة المظلمة مع رعد وبرق وخوف من الصواعق. فإن قلت : الذي كنت تقدّره في المفرّق من التشبيه من حذف المضاف وهو قولك «أو كمثل ذوى صيب» هل تقدّر مثله في المركب منه؟ قلت : لو لا طلب
__________________
(١) لامرئ القيس يصف العقاب وهي تأكل صغار الطير إلا قلوبها ، فلذلك كثرت عندها ، ويصف نفسه بالشجاعة ، حيث وصل إلى رؤية ذلك فقال : كأن قلوب الطير حال كونها رطبا بعضها ويابسا بعضها ، حال كونها عند وكر العقاب ـ أى عشها ـ : العناب ، وهو ثمر أحمر رطب ، فهو راجع للبعض الرطب. والحشف : الجاف الرديء من التمر البالي الهالك ، فهو راجع للبعض اليابس ، ففيه لف ونشر مرتب ، وفيه طباق التضاد بين الرطب واليابس. ويجوز أن رطباً ويابسا نصب على البدل من قلوب الطير ، أى كأن الرطب واليابس منها : العناب والحشف. وبدل البعض لا يجب فيه ضمير يرجع للبدل منه ، وإن كانت الأولى ذلك.