وَرَحْمَتُهُ) وهو إرسال الرسول ، وإنزال الكتاب (١) ، والتوفيق (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) لبقيتم على الكفر (إِلَّا قَلِيلاً) منكم. أو إلا اتباعا قليلا ، لما ذكر في الآي قبلها تثبطهم عن القتال ، وإظهارهم الطاعة وإضمارهم خلافها. قال : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إن أفردوك وتركوك وحدك (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد ، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل : دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج ، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها ، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت ، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ، وقرئ (لا تكلف) بالجزم على النهى. ولا نكلف : بالنون وكسر اللام ، أى لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب ، لا التعنيف بهم (عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم قريش ، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبى سفيان وقال : هذا عام مجدب ، وما كان معهم زاد إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) من قريش (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) تعذيبا.
__________________
(١) عاد كلامه. قال : «ومعنى ولو لا فضل الله عليكم ورحمته : ولو لا إرسال الرسول وإنزال الكتاب ... الخ» قال أحمد : وفي تفسير الزمخشري هذا نظر ، وذلك أنه جعل الاستثناء من الجملة التي وليها بناء على ظاهر الاعراب» وأغفل المعنى ، وذلك أنه يلزم على ذلك جواز أن ينتفل الإنسان من الكفر إلى الايمان ، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه ، وليس لله عليه في ذلك فضل. ومعاذ الله أن يعتقد ذلك. وبيان لزومه أن لو لا حرف امتناع لوجود ، وقد أبانت امتناع اتباع المؤمنين للشيطان ، فإذا جعلت الاستثناء من الجملة الأخيرة ، فقد سلبت تأثير فضل الله في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة ، وجعلت هؤلاء المستثنين مستبدين بالايمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر ، بأنفسهم لا بفضل الله. ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليك : لو لا مساعدتى لك لسلبت أموالك إلا قليلا ، كيف لم تجعل لمساعدتك أثراً في بقاء القليل للمخاطب ، وإنما مننت عليه بتأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله. ومن المحال أن يعتقد موحد مسلم أنه عصم في شيء من الأشياء من اتباع الشيطان إلا بفضل الله تعالى عليه. أما قواعد أهل السنة فواضح أن كل ما يعد به العبد عاصيا للشيطان من إيمان وعمل خير ، مخلوق لله تعالى ، وواقع بقدرته ، ومنعم على العبد به. وأما المعتزلة فهم وإن ظنوا أن العبد يخلق لنفسه إيمانه وطاعته إلا أنهم لا يخالفون في أن فضل الله منسحب عليه في ذلك ، لأنه خلق له القدرة التي بها خلق العبد ذلك على زعمهم ووفقه لارادة الخير ، فقد وضح لك تعذر الاستثناء من الجملة الأخيرة على تفسير الزمخشري ، وما أراه إلا واهما مسترسلا على المألوف في الاعراب ، وهو إعادة الاستثناء إلى ما يليه من الجمل ، مهملا للنظر في المعنى. ومن ثم اتخذ القاضي أبو بكر رضى الله عنه الاستثناء في هذه الآية إلى ما قبل الجملة الأخيرة فطنة منه ويقظة ، ولأنه إمام مؤيد في نظره مسود في فكره ، ثم اتخذ القاضي رضى الله عنه هذه الآية وزره في الرد على من زعم الجزم بعود الاستثناء المتعقب للجمل إلى الأخيرة ، ظنا منه أن ذلك واجب لا يسوغ سواه. ثم يقف في عوده إلى ما تقدم خاصة. وقد بينت عند قوله تعالى : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) أن الاستثناء في هذه الآية أيضاً يتعين عوده إلى الأولى ، ويتعذر رده إلى الأخيرة ، لأن المعنى يأباه ، وهي مؤازرة للقاضي في الرد على من حتم عود الاستثناء إلى الأخيرة ، والله الموفق.