كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل (أَذاعُوا بِهِ) وكانت إذاعتهم مفسدة ، ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر منهم ـ وهم كبراء الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم ـ (لَعَلِمَهُ) لعلم تدبير ما أخبروا به (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها. وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار ، فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء ، فتعود إذاعتهم مفسدة. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوّضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا ، لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. وقيل : كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه ، فيعود ذلك وبالأعلى المؤمنين. ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، لعلم صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع هؤلاء المذيعون ، وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر ، أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم. يقال : أذاع السر ، وأذاع به. قال :
أَذَاعَ بِهِ فِى النَّاسِ حتَّى كَأَنَّهُ |
|
بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوب (١) |
ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة ، وهو أبلغ من أذاعوه. وقرئ (لَعَلِمَهُ) بإسكان اللام كقوله :
فَإنْ أَهْجُهُ يَضجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ |
|
مِنَ الْأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وَغَارِبُهْ (٢) |
والنبط : الماء يخرج من البئر أول ما تحفر ، وإنباطه واستنباطه : إخراجه واستخراجه ، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني والتدابير فيما يعضل ويهم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
__________________
(١) أمنت على السر امرءاً غير حازم |
|
ولكنه في النصح غير مريب |
أذاع به في الناس حتى كأنه |
|
بعلياء نار أوقدت بثقوب |
لأبى الأسود الدؤلي. والحازم : السديد الرأى. ويقال : أذاعه إذا أفشاه وأظهره ، ويضمن معنى التحدث أيضاً فيقال : أذاع به أى تحدث به فأظهره. والعلياء : الأرض المرتفعة. والثقوب : آلة تثقب بها النار فتشتعل. يقول : وضعت السر عند من لا يصونه ، وغرني صدق نصحه فأفشاه بين الناس. حتى كأنه نار في أكمة عالية أشعلت بالثقوب ، فتكون أشد ظهوراً.
(٢) ضجر البعير : كثر رغاؤه من ثقل الحمل. والبازل البعير الذي انشق نابه ، وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة.
والأدم : الشديدات البياض : جمع آدم أى شديد البياض ، وربما علته صفرة ، وزان حمر وأحمر ، خصها لرقة جلودها. والدبر : الانجراح والانتقاب من الرحل. والغارب : العظم الناشز في الظهر. وضجر ، ودبر : فعلان ماضيان من باب تعب ، سكن وسطهما تخفيفا. يقول : إن أذمه يتضجر كتضجر ذلك البعير من حمله.