يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره ، لأن أسباب النجاة كثيرة ، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره. ووجه آخر : إن كنتم صادقين في قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين. وقوله (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) استهزاء بهم ، أى إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت ، فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٧١)
(وَلا تَحْسَبَنَ) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. وقرئ بالياء على : ولا يحسبنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يحسبنّ حاسب. ويجوز أن يكون (الَّذِينَ قُتِلُوا) فاعلا ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا ، أى ولا يحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ قلت : هو في الأصل مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله (أَحْياءٌ) والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليهما. وقرئ : ولا تحسبنّ بفتح السين ، وقتلوا بالتشديد. وأحياء بالنصب على معنى : بل احسبهم أحياء (عِنْدَ رَبِّهِمْ) مقرّبون عنده ذوو زلفى ، كقوله : (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ). (يُرْزَقُونَ) مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم ، من كونهم أحياء مقرّبين معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها. وعن النبي صلى الله عليه
__________________
ـ وقت حينهم في علم الله عز وجل ، إيمانا بقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وخلافا للمنافقين وللموافقين لهم من المعتزلة في قولهم : لو أطاعونا ما ماتوا. ولعمري إنهم في هذا المعتقد مقلدون لنمروذ في قوله : أنا أحيى وأميت ، فان الأحمق ظن أنه يقتل إن شاء فيكون ذلك إماتة ، ويعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء ، وغاب عنه أن الذي عفا عن قتله إنما حيي لاستيفاء الأجل الذي كتبه الله له ، وأن الذي قتله إنما مات لأنه استوفى تلك الساعة أجله ، والله الموفق.