وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات ، والثاني أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه ، معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجرى عليه من المصائب ، ولا يشعر أنّ لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) وليكرم ناسا منكم بالشهادة ، يريد المستشهدين يوم أحد. أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد ، من قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ). (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) اعتراض بين بعض التعليل وبعض. ومعناه : والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان ، المجاهدين في سبيل الله ، الممحصين من الذنوب. والتمحيص : التطهير والتصفية (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) ويهلكهم. يعنى : إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص ، وغير ذلك مما هو أصلح لهم. وإن كانت على الكافرين ، فلمحقهم ومحو آثارهم.
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)(١٤٢)
(أَمْ) منقطعة (١) ومعنى الهمزة فيها الإنكار (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بمعنى ولما تجاهدوا ، لأنّ العلم متعلق بالمعلوم (٢) فنزل نفى العلم منزلة نفى متعلقه لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيراً ، يريد : ما فيه خير حتى يعلمه. ولما بمعنى لم ، إلا أن فيها ضربا من التوقع فدلّ على نفى الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله. وقرئ (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) بفتح الميم. وقيل أراد النون الخفيفة ولما يعلمن (٣)
__________________
(١) قوله «أم منقطعة» هي المفسرة ببل والهمزة. (ع)
(٢) قال محمود : «ولما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم ... الخ» قال أحمد : التعبير عن نفى المعلوم بنفي العلم خاص بعلم الله تعالى ، لأنه يلزم من عدم تعلق علمه بوجود شيء ما ، عدم ذلك الشيء ، ضرورة أنه لا يعزب عن علمه شيء لعموم تعلقه ، فاستقام التعبير عن نفى الشيء بنفي تعلق العلم القديم بوجوده المصحح للملازمة ، ولا كذلك علم آحاد المخلوقين ، فانه لا يعبر عن نفى شيء بنفي تعلق علم الخلق به ، لجواز وجود ذلك الشيء غير معلوم للخلق. والزمخشري يظهر من كلامه صحة هذا التعبير مطلقاً ويعتقد الملازمة المذكورة عامة ، فلذلك قال في قول فرعون (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أنه عبر عن نفى المعلوم بنفي العلم ، لأنه من لوازمه. وسيأتى بيان أن الزمخشري وهم في هذا الموضع ، وإلا فهو يحاشى عن الوقوع في مثله اعتقاداً ، والله أعلم. وإنما عبر فرعون بذلك تلبيساً على ملئه وتتميماً لدعوى ألوهيته الكاذبة بأنه لا يعزب عن علمه شيء ، فلو كان إله سواه على دعواه لتعلق علمه به وهذا يعد من حماقات فرعون ودعاويه الفارغة ، والله الموفق.
(٣) قوله «ولما يعلمن» لعله أى ولما يعلمن. (ع)