فحذفها (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع ، كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقرأ الحسن بالجزم على العطف. وروى عبد الوارث عن أبى عمرو (ويعلم) بالرفع على أنّ الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣)
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر ، وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين ، (١) وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعنى : وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده. فإن قلت : كيف يجوز تمنى الشهادة وفي تمنيها تمنى غلبة الكافر المسلم؟ قلت : قصد متمنى الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن ، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء ، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته. ولقد قال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه ـ حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله (٢) :
لكِنَّنِى أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً |
|
وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا |
أو طَعْنَةً بِيَدَىْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً |
|
بِحَرْبَةٍ تَنْفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا |
حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِى |
|
أرشدَكَ اللهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدَا (٣) |
__________________
(١) قوله «في الخروج» لعله وكان رأيهم في الخروج. (ع)
(٢) قوله «وقيل له : ردكم الله» لعله سالمين. (ع)
(٣) لعبد الله بن رواحة حين خرج إلى غزوة مؤتة فقيل له : ردك الله سالما. وذات فرغ : أى واسعة الثقب. والفرغ : مصب الماء من الدلو بين العرقى. أو طعنة ذات فرغ : أى ذات سعة. ويطلق الفرغ على الدلو أيضا. وتقذف الزبد : تمج الدم الذي يعلوه الزبد ـ أى الرغوة ـ لكثرته. وحران : عطشان إلى قتلى ، وهو مجاز عن تطلبه إياه. والمجهزة : المدفقة المسرعة التي لا تبقى رمقاً. وتنفذ الأحشاء : أى تنفذ فيها. وإن ضممت التاء وكسرت الفاء ، فمعناه تثقبها. والكبد : عطف خاص على عام. والجدث : القبر ، والتفت إلى الغيبة في قوله : وقد رشد ، على أنه من كلامه. ويجوز أنه من قول الناس. ويحتمل الاخبار والدعاء. ومن غاز : تمييز.