وشفا الحفرة وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتأنيث ، ولامها واو ، إلا أنها في المذكر مقلوبة وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة الجانب والجانبة. فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها (كَذلِكَ) مثل ذلك البيان البليغ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إرادة أن تزدادوا هدى.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١٠٤)
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) من للتبعيض (١) ، لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفايات ، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر ، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر ، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ، ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا ، أو على مَن الإنكار عليه عبث ،
__________________
ـ لو بالغت في الكتمان حتى كأنك كنت في بئر عميق. فالعدد كناية عن ذلك ، ثم رقيت من قعره وبلغت أسباب السماء ، أى أبوابها. وقوله «بسلم» مبالغة في التشبيه ، كأنه صعد حقيقة على سلم «ليستدرجنك» بالنون المخففة ، أى ليستنزلنك «القول» من السماء درجة درجة إلى قعر البئر كما كنت ويفسد تحيلك ، فتهره أى تقوله. ودرج الصبى : إذا قارب بين خطاه. ودرج القوم : مات بعضهم إثر بعض. وهر الكلب هريراً إذا صوت. وفيه إشعار بتشبيهه بالكلب النابح. وتعلم ، أى وأجيب أنا عن قولك فتعلم انى غير عاجز عن الجواب فيما بينكم. وروى «عنكم» بدل «عندكم» وهي هي. ورجع إلى بيان استدراج القول له فقال : وتشرق بالقول الذي قد أذعته ونشرته عنى. وشرق : إذا غص بريقه أو نحوه. وذاع الخبر ذيعا وذيوعا : انتشر. وأذاعه : نشره. أى لم تقدر على ابتلاعه وكتمانه كما لم يبلغ صدر القناة أى الرمح الدم الذي يكون عليه من القتيل. وشبه القول الذي لم يقدر على كتمانه بالشيء الذي لم يقدر على ابتلاعه ، فاستعار الشرق للعجز عن الكتمان على طريق التصريحية. وشبه الشرق الأول بالثاني ليفيد ضمنا أن قوله كالدم للمبالغة في عدم إمكان الكتمان. الوجه الثاني أن معناه لو كنت متباعداً عنى كأنك في قعر البئر ورقيت منه إلى السماء ليقربنك القول إلى شيئا فشيئا حتى تهره ، أى تكرهه وتبغضه ، وتعلم أنى عندكم غير عاجز عن الكلام الذي يقربك إلى ، وتشرق بالقول الذي قد أذعته أنا عنك ؛ فالتاء على هذا للمتكلم ، أى لم تقدر على استماعه ودخوله أذنك كما لم تقدر صدر القناة على ابتلاع الدم. وصدر القناة مذكر. ولكن اكتسب التأنيث من المضاف إليه ، فلذلك أنث فعله وقال شرقت ، وقيل القناة هنا مجرى الماء ، وأين هي من الدم.
(١) قال محمود «من للتبعيض ... الخ» قال أحمد : وفي هذا التبعيض وتنكير أمة تنبيه على قلة العاملين بذلك ، وأنه لا يخاطب به إلا الخواص. ومن هذا الأسلوب قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) فإنما وجه الخطاب على نفس منكرة تنبيها على قلة الناظر في معاده ، وكذلك قوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) حتى ورد في التفسير أن المراد أذن واحدة مخصوصة وهي أذن على بن أبى طالب رضى الله عنه.