حينما نحاول جاهدين التوصل إلى الأشكال الثقافية المختلفة عما هو سائد عندنا. وبما أننا نتحول إلى طرف مرافق للرحالة طوال رحلته ، فإننا لا نكون منشغلين فقط بما شاهده الرحالة في أوربا ، بل نكون أيضا مهتمين بالكيفية التي شاهد بها تلك الأشياء ، وبالطريقة التي انعكست بها على مشاعره وذكرته بما هو سائد في بلده. إن فرنسا وباريز هما المرآتان اللتان نقرأ فيهما تصورات الصفار لمواقع أكثر بعدا ، بما في ذلك الحقول الخضراء والأزقة المزدحمة والسهرات والحفلات الراقصة ، التي شكلت جميعها لوحة رسمت عليها صورة أخرى عن مكان لا نعرف عنه نحن القراء الأجانب إلا القليل ، فكان ذلك المكان هو المغرب كما هو وارد في تصورات محمد الصفار.
وأخيرا ، وعلى مستوى آخر ، فإن هذه الأشياء المحكية تتجاوز مجرد القيام بالرحلة لتدخل في مجال آخر يجعلها ذات ترنيمات أخلاقية ، تزداد قوتها بفضل تلك الميزة الكونية التي يتضمنها إحلال الشيء محل الشيء الآخر. وهنا تصبح الرحلة مجازا ، ويتحول الرحالة إلى صانع أسطورة ، وتصبح القصة خرافة. إن نموذج بنيتها ـ المتمثل في مرحلة الانطلاق وفصول المغامرة ثم العودة ـ ليس هو الأمر الوحيد الذي يجعل الروايات المتعلقة بالرحلة تكتسي صبغة كونية ، بل هناك أيضا الدلالات والمعاني التي يستخلصها الرحالة نفسه من الرحلة. وفي حالة محمد الصفار ، فإن المغزى من روايته واضح جدا : فهو يقول لنا إنه بإمكان المرء الذهاب إلى أرض الافتتان ، وإلى المكان الذي يجمع في نفسه بين الخبيث والطيب ، ثم ينغمس فيه ويعود إلى بلده حكيما سالما من الأذى.
هذا هو الدرس الذي تقدمه الرحلة. لكن لا يمكننا الجزم فيما إذا كانت مضامينها قد أقنعت أولئك الذين قرأوها خلال عصره أم لم تقنعهم. ومما لا شك فيه أن الرحلة قد تدوولت ونوقشت في الأوساط الخاصة لحاشية السلطان ، ثم أودعت بالخزانة السلطانية حيث أهملت مدة تجاوزت قرنا من الزمن. ولم يكن الصفار يعتقد أبدا ولا تصور أحد أن مخطوطته ستظل راقدة زمنا طويلا لتشع بنورها على قراء ينتمون إلى عصر آخر فتمتعهم.