فى محلة الحاكه ، وكم نلت العز والرفعة ودبّر فى قتلى غير مرة وحججت وجاورت وغزوت ورابطت وشربت بمكة من السقاية السويق وأكلت الخبز والجلبان بالسيق ومن ضيافة إبراهيم الخليل وجمّيز عسقلان السبيل وكسيت خلع الملوك وأمروا لى بالصلات ، وعريت وافتقرت مرات وكاتبنى السادات ووبخنى الأشراف وعرضت على الأوقاف وخضعت للأخلاف ، ورميت بالبدع واتهمت بالطمع وأقامنى الأمراء والقضاة أمينا ودخلت فى الوصايا وجعلت وكيلا وامتحنت الطرّارين ورأيت دول العيّارين واتبعنى الأرذلون وعاندنى الحاسدون وسعى بى إلى السلاطين ، ودخلت حمامات طبرية والقلاع الفارسية ورأيت يوم الفوّارة وعيد برباره وبئر بضاعة وقصر يعقوب وضياعه (١). ومثل هذا كثير ، ذكرنا هذا القدر ليعلم الناظر فى كتابنا أنّا لم نصنفه جزافا ولا رتبناه مجازا ، ويميزه من غيره ، فكم بين من قاسى هذه الأسباب وبين من صنف كتابه فى الرفاهية ووضعه على السماع. ولقد ذهب لى فى هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم سوى ما دخل علىّ من التقصير فى أمور الشريعة ، ولم يبق رخصة مذهب إلا وقد استعملتها ، قد مسحت على القدمين وصليت بمدهامّتان ونفرت قبل الزوال وصليت الفريضة على الدواب ومع نجاسة فاحشة على الثياب وترك التسبيح فى الركوع والسجود وسجود السهو قبل التسليم ، وجمعت بين الصلوات وقصرت لا فى سفر الطاعات ، غير أنى لم أخرج عن قول الفقهاء الأئمة ولم أؤخر صلاة عن وقتها بتّة ، وما سرت فى جادّة وبينى وبين مدينة عشرة فراسخ فما دونها إلا فارقت القافلة وانفتلت إليها لأنظرها قديما ، وربما اكتريت رجالا يصحبونى وجعلت مسيرى فى الليل لأرجع إلى رفقائى مع إضاعة المال والهم».
هذه القطعة تذكرنا بعض الشىء بالمقدمة المعروفة لليعقوبى ، ولكنها تمتاز عليها بحيوية أكثر فى العرض ؛ وفى مدى بضعة قرون سنلتقى بابن بطوطة الرحالة التى لم تكن مشاهداته بأقل مما شاهده المقدسى هذا إن لم يزد عليه ، بل إن تجواله انتظم مجالا أوسع. غير أن عرض ابن بطوطة قد ذهب بأجمعه فى الرحلة ولا يوجد لديه أثر للحديث عن مصادره كما فعل المقدسى فى بداية كتابه بمهارة وبراعة فائقتين.
ولا تقف فصول المدخل عند هذا الحد ، فقد رجع المؤلف إلى الكلام على الأماكن المجهولة الموقع وتعداد المدن والنواحى («الأمصار والقصبات») والنقاط المأهولة بها. ويلى هذا الكلام على تقسيمه الأرض إلى الأقاليم السبعة المعروفة لنا ، وعلى موضع القبلة وامتداد «دولة الإسلام». وجميع هذه الفصول الأولى من الكتاب تمثل ما يقرب من سدسه ، وفقط عند استيفاء الكلام فيها ينتقل بالقارئ إلى وصف البلاد الذى يخضع لتنظيم دقيق على طول صفحات الكتاب. وعند وصفه لكل قطر يقسمه عادة إلى ثلاثة
__________________
(*) فى هامش ص ٤٥ من المتن المطبوع لكتاب المغدسى جاء أن إحدى المخطوطات تقرأ بعد «قصر يعقوب وضياعه» ما يأتى : «والمهرجان والسنده (والسذه) والنيروز بعدن وعجبه وعيد الماوسرجه (المارسرجه)». وفى الترجمة الروسية أدخل المؤلف هذه الألفاظ فى صلب المتن. (المترجم)