هؤلاء المهاجرون والأنصار الذين مدحهم الله على سواء ، وأشركهم في قسمة الفيء والأنفال ، فهل إن هذا وذاك يختصهم؟ كلا! بل :
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) :
هذه الآية تلقي ضوءا عاما لجميع هؤلاء الذين حياتهم حياة المهاجرة والنصرة في سبيل الله والمحبة والإيثار في الله ، من كانوا وأيا كانوا وأينما كانوا ، فإنما الأصل الأول والأخير هو الإيمان والعمل الصالح ، دون اختصاص بسابق أو لاحق ، وإن كان للسابقين ـ بما هم حجر الأساس ـ لهم فضلهم ، ولكنما السبقة والسباق في الإيمان أيضا قد يحصلان بعد البداية ، أو كأفضل منها أحيانا ، وفي ظروف أشد خطورة ، وأجواء أظلم وأطغى.
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : من بعد المهاجرين والأنصار الأولين ، جاءوا للإيمان كما هم ، أم جاءوا إلى الوجود ونشؤا في جو الإيمان ، بعدية كونية أم كيانية يجمعهما أنهم مؤمنون ، وهذا عطف على الفقراء المهاجرين ، يعطفهم على (ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) للعطف بهم في تقسيم الفيء والأنفال ، مما يدل على شمول الفيء لكافة المؤمنين الفقراء ، وإن كان بنو هاشم أولى إذا ساووهم في الإيمان أو سابقوهم.
فهذه صورة ثالثة ووضيئة عن المؤمن الحقيقي ، تطمئنه أنه لو حرم الهجرة والنصرة الاولى ، ولكنه لا يحرمهما بعدهما ، فلتكن حياة المؤمن حياة الهجرة والنصرة في الله دون أن يخاف أحدا إلا الله.
هؤلاء تشبه حالهم مقالهم : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) : سبق الزمان أو سبق الإيمان في درجاته ، فهم مهما انفصلوا عن إخوانهم المؤمنين ، الأنصار والمهاجرين ، زمانا ومكانا ، ولكنهم لا ينفصلون عنهم أخوّة وإيمانا ، فقد تتجلى فيهم الاصرة الباهرة التي تربط هذه الامة