في معنى عاقب وأدّب ، ومنه قول الفقهاء : هذا شيء يجب فيه التعزير ، وهو ما دون الحدّ ، ويكون في معنى وقر وعظم ، وعليه قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ...).
ومنها الغابر يكون بمعنى الماضي وبمعنى الآتي ، والغريم يكون الدائن والمدين.
ومنها المفازة للمنجاة والمهلكة ، وفوق بمعنى الأعلى وهو الأكثر ، وبمعنى الأسفل ، وبه تأول البعض قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).
ومنها القرء الذي يقع على الحيض وعلى الطهر معا.
ومنها الهاجد يكون معناه النائم والساهر.
ومنها المولى يأتي بمعنى المعتق المنعم ، ويأتي أيضا بمعنى المعتق المنعم عليه.
ومن حروف الأضداد الوراء ، يكون الخلف وهو الأعرف الأشهر ، وقد يأتي ومعناه الأمام وعليه قول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي |
|
لزوم العصا تحني عليها الأصابع |
وعليه أيضا قول عروة بن الورد :
أليس ورائي أن أدب على العصا |
|
ويأمن أعدائي ويسأمني أهلي |
ولم يأت التضاد في العربية عن وضع أصلي ، وإنّما كان لأمور عارضة أدّت إليه نذكر منها ما يأتي :
أن يكون للّفظ دلالة أولى ، ثم تنشطر تلك الدلالة الأولى والقديمة إلى معنيين متنافيين كالذي يجوز أن يكون حدث في لفظ القرء الذي كان له معنى قديم هو الوقت عامة ، ثم أطلق بعد على وقت الحيض عند قوم ، وعلى وقت الطهر عند آخرين بما أنه وقت لهما معا.
جاء في مقدّمة كتاب الأضداد لابي بكر الأنباري ما نصّه :
«وقال آخرون (يعني في علّة وجود التضادّ في العربيّة) إذا وقع الحرف على معنيين متضادين فالأصل لمعنى واحد ، ثم تداخل الاثنان على جهة الاتّساع ، فمن ذلك الصريم ، يقال لليل صريم ، وللنهار صريم ، لأن الليل ينصرم من النهار ، والنهار ينصرم من الليل ، فأصل المعنيين من باب واحد وهو القطع ، وكذلك الصارخ المغيث ، والصارخ المستغيث ، سميا بذلك لأن المغيث يصرخ بالإغاثة ، والمستغيث يصرخ بالإستغاثة ، فأصلهما من باب واحد ، وكذلك السدفة الظلمة ، والسدفة الضوء ، سميا بذلك لأن أصل السدفة الستر ، فكأن النهار إذا أقبل ستر ضوؤه ظلمة الليل ، وكأن الليل إذا أقبل سترت ظلمته ضوء النهار».
وجاء التضادّ أيضا من اختلاف اللهجات التي كانت تتكلّمها القبائل العربيّة ، إذ يتفق أن تتكلم إحدى القبائل منها بلفظ توقعه على معنى ، فتتكلّم أخرى بنفس اللّفظ ولكنها توقعه على معنى مضادّ.
وفي كون اختلاف اللهجات سببا في وجود التضادّ ما حكاه الأنباري في مقدّمة أضداده عن غيره فقال :
«وقال آخرون (يعني في سبب وجود التضادّ) إذا وقع الحرف على معنيين متضادّين فمحال أن يكون العربيّ أوقعه عليهما بمساواة منه بينهما ، ولكن أحد المعنيين لحيّ من العرب والمعنى الآخر لحيّ غيره ، ثم سمع بعضهم لغة بعض فأخذ هؤلاء عن هؤلاء وهؤلاء عن هؤلاء ، قالوا فالجون الأبيض في لغة حيّ من العرب ، والجون الأسود في لغة حيّ آخر ، ثم أخذ أحد الفريقين من الآخر».
ونشأت طائفة من كلم الأضداد عن باعث نفسي من تشاؤم أو تفاؤل أو توقع كتسميتهم اللّديغ بالسليم تفاؤلا له بالسلامة ، ومن ذلك أيضا أنّهم سمّوا المهلكة مفازة ، ونعتوا الفرس الحسنة الخلق بالشوهاء توقّيا من إصابتها بالعين ، أو لباعث اجتماعي كقولهم في الأعمى البصير تأدّبا معه وتلطّفا به ، وهم كنّوا الحبشي بأبي البيضاء تحسينا لسواده ، وربّما كنّوه بذلك تهزّؤا به ، ومن القصد الثّاني قول المتنبي في كافور الإخشيدي :
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن |
|
يسيء به فيه كلب وهو محمود |
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا |
|
وأن مثل أبي البيضاء موجود |