لا ننزل الملائكة إلا بحق وحكمة ومصلحة نعلمها ، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار ، وهم من غير جنسكم ولا على صورتكم فيلتبس الأمر عليكم ؛ إذ لكل جنس هاد من جنسه ، كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً ، لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام ٦ / ٩].
(وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي ولو نزلنا الملائكة لكان ذلك إنزالا للهلاك والعذاب ، وما أخر عنهم العذاب ساعة ؛ لأن سنتنا أننا إذا أنزلنا آية كما يقترح الناس ولم يؤمنوا بها ، أتبعنا ذلك بعذاب الاستئصال ، فكان في إنزال الملائكة ضررا محققا لهم ، لا نفعا.
ثم أجابهم الله تعالى عن المقالة الأولى بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ..) أي أنه تعالى هو الذي أنزل عليه الذّكر وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ، فقولوا : إنه مجنون ، ونقول : نحن منزلوا القرآن وحافظوه. وتلك خصوصية للقرآن ، فإنه تعالى تكفل وحده بحفظه وصونه ، على مدى الدهر ، بخلاف الكتب السابقة التي أمر بحفظها الأحبار والرهبان ، فعبثوا بها وغيروها وبدلوها ، بل إن أصلها قد فقد وضاع ، فلم يعرف لها أثر ؛ قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ ، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ ، وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [المائدة ٥ / ٤٤].
ثم قال الله تعالى مسليا لرسوله صلىاللهعليهوسلم في تكذيب بعض كفار قريش : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ..) أي إنا أرسلنا قبلك رسلا للأمم الماضية وشيعها وطوائفها وفرقها ، ولكن ما أتاهم من رسول إلا كذبوه واستهزءوا به وكفروا برسالته ، فقوله : (وَما يَأْتِيهِمْ) حكاية حال ماضية ؛ لأن